توقيت القاهرة المحلي 21:02:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المعضلة الأميركية

  مصر اليوم -

المعضلة الأميركية

بقلم : عبد المنعم سعيد

في الأول من مارس (آذار) نشر الكاتب إشان ثارور مقالاً في «واشنطن بوست»، طارحاً فيه ما رآه «المعضلة السعودية» التي على رئيس الولايات المتحدة جو بايدن أن يتعامل معها. وليس من الصعب التعرف على هذه المسألة في ضوء ما نسمعه الآن من مصادر الإعلام والسياسة بالولايات المتحدة، حيث تمثل المملكة العربية السعودية حليفاً استراتيجياً واقتصادياً قديماً وحديثاً بالنسبة للولايات المتحدة من ناحية، وقضية حقوق الإنسان في المملكة. هذا النوع من المأزق أو الإشكالية المفتعل ليس جديداً في العلاقات الأميركية - السعودية (والعلاقات الأميركية مع كثير من دول العالم)؛ فقد كان موجوداً من قبل، وكانت فيه قائمة طويلة من الاتهامات التي تخص المرأة والأقليات واستيعاب الشباب في الإنتاج والسياسة. كل ذلك انتهي الآن على ضوء عملية التحديث وتنويع مصادر الدخل الجارية في المملكة خلال السنوات القليلة الماضية، ولم يبق منها إلا موضوع الحادث البشع لمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. المدهش في الموضوع، أنه لا يوجد خلاف لا في الوقائع ولا في النتائج بين الولايات المتحدة والمملكة، فهناك اتفاق على وجود واقعة القتل، وعلى أنها بشعة، وعلى ضرورة محاكمة القتلة؛ وهو ما حدث بالفعل وفقاً للقوانين المرعية في المملكة. وفي الواقع أن هناك اتفاقاً أيضاً في أن دول العالم المختلفة كثيراً ما تحدث فيها هذه الجرائم البشعة من أشخاص تجاوزوا مناصبهم ومسؤولياتهم، وما حدث أنه مع المحاكمة تحمّل المسؤولون السياسيون المسؤولية وقاموا بإجراء الإصلاحات الضرورية التي تمنع تكرار هذه الجرائم مرة أخرى.
وفي الحقيقة، فإن التجربة الأميركية المعاصرة والقديمة تشهد أن التجاوز في حقوق الإنسان يحدث أحياناً نتيجة خروج عناصر من الدولة على القانون والقواعد المقررة للتعامل مع مواقف بعينها. وأثناء حرب فيتنام، في صباح يوم 16 مارس 1968 قام الملازم ويليام كايلي وجنوده بتطويق قرية ماي لاي، ثم قام بجمع القرويين العزل وأمر بإضرام النار في بيوتهم وقتل السكان كافة. لاقى ما بين 300 و500 مدني مصرعهم في هذه المجزرة. وبعد مرور عام على تلك الأحداث وفي شهر مارس من سنة 1969 قام الجندي رينولد ريدنهاور بإرسال رسائل إلى شخصيات ومؤسسات رسمية عدة مبلّغاً بذلك وكاشفاً فظاعة المجزرة. وفي يوم 20 نوفمبر (تشرين الثاني) قامت وسائل الإعلام بكشف القضية وبنشر صور الضحايا. قامت محكمة عسكرية بالحكم على ويليام كايلي بالسجن مدى الحياة، غير أنه تم إطلاق سراحه بعد يوم عندما منحه الرئيس نيكسون عفواً رئاسياً! وبعد عام من غزو العراق، وفي أوائل 2004 تفجرت فضيحة انتهاكات سجن أبو غريب في العراق بحق سجناء كانوا في السجن. وتلك الأفعال قام بها أشخاص من الشرطة العسكرية الأميركية، بالإضافة إلى شركات سرية أخرى. وتعرض السجناء العراقيون إلى انتهاكات تضمنت إساءة معاملة واعتداءات نفسية وجسدية وجنسية، وأفادت تقارير عن حالات اغتصاب وقتل. وبعد عرض الصور التي بينت طرق تعذيب الجنود الأميركيين للمساجين العراقيين وإذلالهم، وتمت محاكمة 11 جندياً أميركياً متورطين بالفضيحة.
حدثت الواقعتان – ماي لاي وأبو غريب – بعد مسيرة طويلة للولايات المتحدة بدأت رغم المبادئ السامية لإعلان الاستقلال الأميركي باعتماد قاعدة «العبودية» في دستور الولايات المتحدة، ولم يمض وقت طويل على قيام الدولة حتى شرعت قانون «الغرباء والفتنة» خوفاً من عدوى فوضى الثورة الفرنسية إلى الدولة الفتية وتهديد استقرارها. وحتى بعدما جرت الحرب الأهلية وأعقبها التعديلات الدستورية 13 و14 و15، فإن ما أعطي باليمين للأميركيين الأفارقة من حقوق للإنسان جرى سحبها عن طريق قوانين «جيم كراو» التي قامت على قاعدة «متساوون... لكن منفصلين» التي احتاجت قرناً كاملاً حتى يأتي قانون الحقوق المدنية ليرفع الكثير من الظلم وليس كله؛ ففي العام الماضي وجد شرطي أميركي أن من حقه أن يضع ركبته على القصبة الهوائية للأميركي الأفريقي جورج فلويد لكي يلفظ أنفاسه مختنقاً بينما عدسات التلفزيون تقوم بالتصوير. ولا جرى ذلك أيضاً بعد الأحداث «المؤسفة» لاقتحام مبنى الكونغرس الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث بات واضحاً أنه من الممكن حتى في الولايات المتحدة أن تنمو جماعات يمينية وفاشية، وأنه من الممكن أن تكون حقيقة حرية التعبير هي حرية التحريض، وحقيقة حق الاجتماع والتظاهر هي تصريح بتدمير المنشآت العامة ومنع المؤسسات من القيام بعملها. وللحق، فإنه في كل هذه الحالات كان هناك استنكار وإدانة من الأميركيين، وكان الجهاز القضائي الأميركي يعمل، ولكن كانت التجربة الأميركية تأخذ وقتها للنضج، وبالطبع فإنه لا أحد طالب بإنشاء لجنة دولية للتحقيق أو المراجعة، أو حتى استخدم هذه الوقائع لكي يضع أحكاماً نهائية على الولايات المتحدة أخلاقياً وسياسياً.
ليس صعباً إذن استنتاج وجود «معضلة أميركية» لدى المملكة العربية السعودية، وكذلك بقية دول المنطقة والعالم التي كثيراً ما تضعها الولايات المتحدة في هذا التناقض الغريب بين علاقات التحالف الاستراتيجي، وصيحات الاستنكار حول حقوق الإنسان أو السياسة الداخلية للدولة. ولكن الحقيقة هي أنه لا توجد معضلة لا للولايات المتحدة ولا للمملكة فيما يتعلق بالوقائع المشار إليها إذا ما وضعت على بشاعتها في حجمها الحقيقي على ضوء الظروف التي وجدت فيها. المعضلة تبدأ عندما يقوم واحد من أطراف العلاقة بالاستخدام السياسي لتلك الوقائع في حملة انتخابية أو لأغراض سياسية داخلية أو خارجية. وفي هذه الحالة فإن الطرف الآخر من المعادلة المتمثل في علاقات التحالف الاستراتيجية يتعرض لخطر بالغ يضر بالمصالح الاستراتيجية العليا الخاصة بالبلدين في لحظة هي بطبيعتها حرجة وحساسة، وفيها الكثير من المخاطر التي تهدد الأمن القومي الخاص بالبلدين. ولن يختلف أحد لا في الرياض ولا في واشنطن على أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها تعيش في مرحلة من الارتجاج الكبير منذ بداية العقد الماضي، عندما جرت وقائع ما سمي الربيع العربي وما أدى إليه من موجات إرهابية، وحروب أهلية، وتصاعد الأعمال العدوانية من قبل إيران في المنطقة كلها اعتماداً على جماعات وميليشيات مسلحة؛ ويضاف إلى ذلك كله السعي الحثيث لامتلاك السلاح النووي. المصالح المشتركة هنا تشمل مواجهة ذلك والخروج الآمن للقوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وحماية حرية حركتها في المضايق البحار والمحيطات الملاصقة للمنطقة.
وإذا كانت المصالح الأميركية واضحة حتى مع تزايد القدرات النفطية الأميركية؛ وهي كذلك لا تقل وضوحاً بالنسبة للدولة السعودية وحلفائها من الدول للعربية وجميعهم يعيشون عمليات إصلاح واسعة النطاق اقتصادية واجتماعية وثقافية تضع المنطقة كلها في مسارات جديدة. المعضلة الكبرى حقاً ربما تقوم على التحفظات الخاصة بإدارة الرئيس بايدن على إدارة الرئيس ترمب ومنهج تعاملها مع المنطقة، والتي لا ترى فيها الدول العربية أكثر من أنها كانت الإدارة الممثلة للدولة الأميركية التي يجري التعامل معها في نطاق المصالح المشتركة؛ تماماً كما هو متصور في العلاقات الآن مع إدارة بايدن، لا أكثر ولا أقل!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المعضلة الأميركية المعضلة الأميركية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon