بقلم - عبد المنعم سعيد
الزمن ليس معك، ولا هو ضدك، ولا تصدق من يقول لك إن هناك حتمية تاريخية أو زمنية تفضى إلى نتيجة معلومة مسبقا، ولم يحدث أن انتصر دين ولا أيديولوجية على كل الأديان والأيديولوجيات الأخرى، ولم تتمكن الطبقة العاملة من الانتصار الذى بشرت به الشيوعية، وثبت أن التاريخ لم ينته كما قال فوكاياما، عندما أصبحت المنظومة الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية هى المنتصرة فى الحرب الباردة، فقد تغيرت الدنيا بعدها عدة مرات. هناك أمران يتحكمان فى حركة الزمن وتوجهاته، أولهما: التطور العلمى والتكنولوجى الذى يجر البشر خلفه إلى توجهات لم تخطر على عقل بشر؛ والثورات الصناعية والتكنولوجية التى كانت تحدث على مدى ألفيات زمنية، أصبحت الآن تنتقل من حال إلى حال فى عقد أو بعض عقد. وثانيهما: ماذا يفعل الإنسان بالزمن الذى يتواجد فيه وكيف يستثمره فى اتجاه الخير والتقدم أو العكس فى ناحية الشر والتخلف. الخيار الإنسانى هنا حيوى، ولكل خيار كما نعرف ثمن. ولعل ذلك كان «كعب أخيل» بالنسبة لثورة يناير ٢٠١١، حيث كان الشباب يعرفون جيدا أدوات التواصل الاجتماعى، وعرفوا كيف يعبئون بها الملايين، ولكنهم نسوا أن ملايين أخرى كانت خارج وسائل التواصل الاجتماعى، وكانت فى مكان آخر على الكنبة؛ والأخطر أنه كانت هناك جماعة أخرى تعرف ذات الأدوات وتأخذ الوطن كله فى الاتجاه الآخر الشرير والمتخلف. لم يكن يعرف الشباب الذى كان «كالورد الذى فتح فى جناين مصر» ماذا يفعلون بالجماهير التى تحركت، ولا بالبلد التى صدقت أن الربيع جاء، فكانت النتيجة شتاء استمر سنوات ثلاث.
المحصلة كانت فى النهاية إيجابية، رغم الثمن المدفوع من شهداء، وتراجع تنموى لأربع سنوات تقريبا، وابتعاد عن صدارة المشهد الإقليمى فى وقت حرج وصلت فيه المحروسة إلى أن تكون رجل الشرق الأوسط المريض. هذه الفترة سوف نتركها للمؤرخين يحكون تفاصيلها، وربما لن نعرف أبدا حقيقة ما جرى بشكل كامل، ولكن ما يهمنا هو أن الوطن والدولة المصرية عرفت بالطاقة الكبيرة للشباب المصرى. عرفنا فجأة أن الشباب لا يشكلون فقط الأكثرية بين المصريين، وإنما أيضا أنهم يقرأون من كتب أخرى لم نقرأها لها علاقة بالعالم والأحلام التى يحلمونها. لم يكن دخول الشباب جديدا فى الحياة السياسية المصرية، فقد كان «الأفندية» هم الذين خرجوا فى ثورة ١٩١٩؛ وكانوا هم الذين قاموا بثورة ٢٣ يوليو. وفى جيلنا فإن الشباب الذين انتظموا وراء عبدالناصر فى منظمة الشباب كانوا هم الذين ثاروا عليه فى عام ١٩٦٨ وعلى السادات فى ١٩٧٢. وفى الحالتين كانت الثورة، احتجاجا على هزيمة، وعلى حرب لا تأتى، وكرامة مجروحة حتى جاء وقت الاختبار الناجح فى عام ١٩٧٣. ما بعد ذلك لم تكن ثورات، وإنما مظاهر قلق واحتجاج أخذت تتصاعد منذ ٢٠٠٤ حتى كان الانفجار الكبير فى ٢٥ يناير ٢٠١١. وعلى مدى ٧٢ ساعة بدا كما لو أن شباب مصر قد أمسكوا بالزمن وبقى ماذا سوف يفعلون به، تماما كما حدث من قبل، عندما استقلت مصر وأصبحت دولة مستقلة، وعندما تحررت مصر من الاحتلال الإنجليزى والإسرائيلى، وبقى ماذا سوف تفعل مصر باستقلالها وتحررها؟ الآن وقد رحل الرئيس مبارك ونظامه ماذا سوف يفعل الشباب بمصر؟ ترك الشباب بصمة وعلامة وجود، ولكنها لم تكن توجها ولا خطة، ولا شىء غير شعارات نبيلة.
النتيجة الإيجابية الأخرى كانت أن ما كان واقعا قبل يناير لم يعد ممكنا استمراره، وأن مصر لا يمكن لها الاستمرار على ما سارت عليه من قبل. على السطح فإن المشهد المصرى الحالى بعد الثورة الثانية فى يونيو ٢٠١٣ والإطاحة بحكم الإخوان يبدو لبعض المفسرين أنه عودة إلى ما كانت عليه الأوضاع القديمة. الحقيقة ليست كذلك، وتدريجيا فإن هناك علامات للتحولات جذرية فى البنية الفكرية المصرية لم يكن متصورا حدوثها لا قبل يناير ولا بعدها مباشرة، عندما كانت السلطة فى يد المجلس العسكرى، أو فى عهد الإخوان. هذه التغيرات جوهرها اللحاق بالعصر والعالم، ومسطرة القياس فيها قوة الدولة واستقرارها من خلال التعامل مع ملفات استعصت على الفتح. خذ مثلا ملف «المواطنة» والمساواة بين المصريين على اختلاف طوائفهم وأجناسهم؛ ورغم أن رؤساء مصر السابقين جميعا كانوا يؤمنون بها، فإنهم كانوا حذرين للغاية للحساسيات التى كان يغذيها الواقع الاجتماعى والسياسى، فضلا عن التغذية المستمرة من جانب تيارات سلفية وإخوانية لم تكن ترى الطبيعة الوطنية للدولة. فتح هذا الملف بشجاعة جعل الترابط بين الغالبية الساحقة من المسيحيين والمسلمين واقعة بأكثر من أى وقت مضى؛ ولم تكن العلاقة بين الكنيسة القبطية ومؤسسة الأزهر الشريف كما هى عليه الآن. هذا الملف ممتد إلى ملف آخر وهو علاقة الرجل بالمرأة، حيث انتزعت نساء مصر، خاصة بعد ثورة يونيو، مكانتها الجديدة وحقها أن تكون شريكة كبرى فى إدارة البلاد؛ وحينما نرى ست وزيرات فى الوزارة الآن، فإنها شهادة على عصر أكثر منها صدفة تاريخية.
الحالة فى ملف الوحدة الوطنية والمواطنة فى عمومه ليست حالة وردية، فعمق التمييز يختلف بين القمة والسفح؛ ولكن الاختراق الفكرى من السلطة السياسية حدث، وفى مصر فإن ذلك يكون إيذانا بتحولات كبرى. واحدة منها تدور حول النظرة للملف الاقتصادى فى مصر وحسم توجهاتها الاقتصادية التى حار الشرق والغرب فيها طوال العقود الماضية. شباب يناير لم يكن لديهم، فرادى ومجتمعين، إلا مزيدا من تدخل الدولة، وحينما ذكر الرئيس السيسى فى كشف حسابه أن الأجور فى الدولة ارتفعت من ٨٠ مليار جنيه عام ٢٠١١ إلى ٣٠٠ مليار جنيه (أى أربعة أمثال تقريبا) الآن، فإن القدر الأكبر من ذلك حدث خلال الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤. كان الشباب فى كل مؤسسة هو العنصر الأساسى فى رفع الأجور دون أن تقابلها زيادة ملموسة فى الإنتاجية أو التصدير أو الناتج المحلى؛ كما كان الشباب هو الذى يريد المزيد من الدعم والتدخل الحكومى فى كل أمر وعند كل منعطف، وتجاوب معهم المجلس العسكرى ومن بعده الإخوان. الآن لم تعد المسألة كما كانت هى إدارة الفقر، وإنما إدارة الثروة وخلقها، وبشكل مستقر الآن، فهناك إدراك كبير لدى الرئيس السيسى والوزارة والسلطة التنفيذية فى عمومها، وأنه لابد من معدل عال للنمو يفوق الزيادة السكانية بمراحل حتى يمكن تحسين مستويات المعيشة للمواطنين. ومثل ذلك لا يحدث إلا إذا كان الاقتصاد المصرى مثله مثل الاقتصادات المتقدمة، حيث للعملة سعر واحد، وحيث الدول المتقدمة هى تلك الدول التى لا تمد يدها للآخرين، ولا يعيش شعبها فى انتظار عقد عمل.
لم يكن ممكنا أن نصل إلى هذه النقطة لولا ما جرى فى يناير على ما فيه من سلبيات كثيرة وخطيرة، ولكن ربما كانت أصالة الشعب المصرى ووعيه هى التى جعلت من الممكن تصحيح المسار وتحقيق الإصلاح الذى لم يكن هناك سبيل غيره إذا كان للزمن فى النهاية أن يعمل لصالحنا وليس ضدنا.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية