بقلم : عبد المنعم سعيد
لا بأس من الحلم، إنه من الممكن حل جميع مشكلاتنا ومعضلاتنا مرة واحدة، وما بين غمضة عين وانتباهتها، ولا بأس أيضًا أنه كلما جرى التقدم فى اتجاه، أن يكون الصياح حول عدم الاهتمام بالاتجاهات الأخرى، فذلك يعنى الطموح والحرص على التقدم المصرى بوجه عام. ولكن هذا ليس ممكنًا عمليًا نظرًا للموارد المحدودة بطبيعتها، ومن ثَمَّ فإن الاهتمام المشروع واجب، ولكن «فقه الأولويات» يفرض أن يأتى التركيز على ملف بعد الآخر. ويبدو أن ملف «القاهرة» قد بات الآن فى المقدمة، حيث شهدت الأسابيع الماضية تراكمًا فى الأخبار حول إحياء القاهرة التراثية، وكثير منها يمكن مشاهدته وهو يتقدم يومًا بعد يوم. المقدمات جاءت منذ فترة عندما بدأ العمل فى العاصمة الإدارية عندما تشكلت لجنة قومية لإحياء القاهرة التراثية، والتى بدأت عمليًا بإحياء منطقة القاهرة «الخديوية»، ولكن لمساتها امتدت إلى شارع المعز، والتخطيط لما سوف يكون حول حديقة الأزبكية، وتمت دراسة حدائق القاهرة التاريخية من حديقة الأوزبكية إلى القناطر الخيرية. الآن بات الزحف على القاهرة أكثر شمولًا، ولو أن هناك ملفًا للموضوع فإنه يشمل إحياء جميع متاحف العاصمة الكبرى، بعد أن بات افتتاح «المتحف المصرى الكبير» على الأبواب، كما يشمل إحياء جميع القصور التاريخية، وفى المقدمة منها قصر محمد على الكبير الذى انتهى العمل فيه، ثم بعد ذلك إحياء مناطق متكاملة، تشمل مناطق الفسطاط والعتبة والأهرامات ومصر الجديدة حيث قصر البارون. الأولى ذات طبيعة إسلامية وقبطية، والثانية تصل ما بين المناطق الخديوية والفاطمية والأيوبية، والثالثة هى قلب المرحلة الفرعونية من تاريخ مصر، والأخيرة هى بداية احتضان القرن العشرين المصرى مع القرن الواحد والعشرين فى القاهرة الجديدة. تفاصيل كل ذلك مبهرة، وفى داخلها يوجد إحياء ما كان قد مات من «عيون» الحياة والصيرة وما تَهَدّم من أسوار مجرى العيون. فى مركز ذلك كله يوجد «ميدان التحرير» بمتحفه ومبانيه، حيث ستكون «مسلة» فرعونية ممتدة فى الفضاء تربط ما بين المصريين والسماء.
وللذين يؤمنون بالطاقة والحيوية الجبارة لتراث مدينة القاهرة مثلى، فإنهم يعلمون أن كل ما سبق، وغيره كثير من مشروعات للبنية الأساسية للمواصلات، التى تربط أجزاء المدينة ببعضها البعض، لن يكون مؤديًا لرسالته ما لم يتم التخلص من مخلفات العاصمة. وقد قيل لنا إننا بصدد شركة جديدة سوف تقوم بالمهمة، التى طالما أعْيَت أهل الحل والعقد فى المدينة التاريخية. التساؤلات مشروعة بالطبع عن الشركات السابقة، التى جرى الإعلان عنها لكى تقوم بنفس المهمة فى أكتوبر 2017، أو الاتفاق مع إيطاليا لكى نتعلم منهما كيف تكون نظافة المدن التاريخية، وياليت الإعلانات الحكومية تتضمن دومًا إبراء لذمة كل ما كان تمهيدًا لكل ما سيأتى، وياليت أيضًا يكون ذلك متضمنًا خريطة زمنية لنقطتى البداية والنهاية. ولكن الإحياء الأكبر لروح المدينة سوف يكون إحياء العاصمة الحاضرة، وذلك ربما لن يكون فقط مهمة الدولة، وإنما مهمة المثقفين والأدباء والفنانين لكى تبث حياة طالما خلقت نقطة جذب جبارة للكثيرين من نخبة المنطقة والعالم.
ولعل ذلك هو بيت القصيد، فقد عشت العصر الذى كانت فيه القاهرة حية بأهلها، ساهرة بدُور السينما والمسرح وأصوات الفرق الموسيقية العربية والأجنبية ومهرجانات السينما والمسارح للأطفال والفنون الشعبية. وفى مواسم الصيف كان الأشقاء من العرب يأتون إلى يوم المدينة ويسهرون مع لياليها الساحرة. وربما كان حريق «الأوبرا» فاصلًا بين عهد وآخر، وكان الأخير بداية الأفول الذى جعل الكثير من القمة يأفل ويتآكل. الواجب على الجميع استعادة ذلك كله بزخم جديد للقرن الواحد والعشرين، فلعل التراث لا يكون للماضى فقط، وإنما أيضًا للمستقبل فى المدينة التاريخية. نقطة البداية التى نتصورها تكون من النقابات والاتحادات والجمعيات الأدبية والفنية بأفرعها من الموسيقى إلى الفن التشكيلى للكيفية التى نرى بها القصور والميادين والمتاحف، وكيف تعمل جميعها نهارًا وليلًا، والأهم من ذلك كله كيف نحافظ على كل ما هو مذكور أعلاه، فدروس الماضى تعلمنا أن أحدًا لم يدافع عن «شارع المعز» عندما جرى الهجوم عليه فى عهد الثورات، ومازلت أذكر تساؤلًا فى لجنة القاهرة التراثية عما إذا كان تجديد شارع الألفى لا يزال على حاله، أو أن هناك طريقة ما لإزالة العناكب من العمارات التى جرى تجديدها فى القاهرة الخديوية، وبالطبع كيف نُعظم من استخدامات المساحات التى تشمل المبانى والقصور الحكومية التى ستخلو بالانتقال إلى العاصمة الإدارية أو بالمنشآت الجديدة لمثلث ماسبيرو المُطِلّ على نيل القاهرة!.