توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المفاجأة الاستراتيجية

  مصر اليوم -

المفاجأة الاستراتيجية

بقلم : عبد المنعم سعيد

لم يكن الاضطراب ليحدث فى قصة «أشرف مروان»، كما حدث فى كتاب «أورى بار جوزيف»، «الملاك» الذى صار فيلما بنفس الاسم بمعانٍ أخرى، لو تم وضع القضية كلها فى إطار «المفاجأة الاستراتيجية» التى حققتها مصر وسوريا، فى حرب أكتوبر ١٩٧٣.

كتب الباحث الإسرائيلى آفى شليم فى دراسة شاملة نشرت فى عام ١٩٧٥ بعنوان «الفشل فى تقديرات المخابرات الوطنية: حالة حرب يوم الغفران» أن «التاريخ العسكرى يقدم قليلا من الأمثلة المتماثلة لكمال المفاجأة الاستراتيجية التى حققتها مصر وسوريا فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣».

وفى مذكراته ذكر الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون أن «أنباء الهجوم الوشيك على إسرائيل أخذتنا بالمفاجأة بشكل كامل».

وفى مذكراته «سنوات القلاقل» كتب هنرى كيسنجر وزير الخارجية «أن الهجوم المصرى السورى كان مفاجأة استراتيجية وتكتيكية كلاسيكية»، حيث نتجت عن «سوء تفسير الحقائق التى كانت متاحة للجميع لكى يرونها».

وفى دراسة أجراها مجمع أجهزة المخابرات الأمريكية عام ١٩٧٥ بعد الحرب ذكرت أن الهجوم على إسرائيل كان مفاجأة «كلاسيكية»، حيث نجمت أولا عن وجود معلومات كافية ودقيقة، وثانيا فشل تحليل هذه المعلومات بدقة بسبب مفاهيم مسبقة.

هذا التأكيد على كلمة «الكلاسيكية» فى التعبير عما جرى فى أكتوبر ١٩٧٣ كان وضعا للحرب فى سياقها التاريخى لعشرات الحروب التى جرت دراستها من زاوية «المفاجأة»، وتناولت العلاقة بين المعلومات المتاحة والمفاهيم والمدركات التى جعلت التفسير غير دقيق، وفى أغلب الأحوال تجعله مستقرا داخل ما جرى الاستقرار عليه. وفى عام ١٩٧٧ كتب ما يكل هاندل عن «حرب يوم الغفران وحتمية المفاجأة».

فى كتاب نشر عام ١٩٦٢ عن جامعة ستانفورد الأمريكية بعنوان «بيرل هاربر: التحذير والقرار» تناول المؤلف «روبرتا هولستتر» هذه العلاقة بين المعلومات وتفسيرها فيما خص الهجوم اليابانى على بيرل هاربر، وهو الهجوم الذى جرى على جواهر الأسطول الأمريكى، وبعده لم تجد الولايات المتحدة سوى الدخول فى الحرب العالمية الثانية.

الأطروحة الأساسية فى هذه الكتاب كانت أن المفاجأة لم تحدث نتيجة نقص فى المعلومات، وإنما فى سوء إدراكها؛ وهو ما حدث نتيجة «الإشارات»ـ أى العلامات واللافتات والبراهين التى تقول شيئا ما عن نوع من الخطر أو النوايا الخاصة به- و«الضوضاء الخلفية» التى هى نوع آخر من الإشارات التى تتناقض مع الإشارات الأخرى. بارتون ويلى فى عام ١٩٧٣ كتب عن «العملية بارباروسا»ـ الغزو الألمانى لروسيا فى الحرب العالمية الثانيةـ ميز ما بين المعلومات غير ذات القيمة والتى تعقد عملية تحليل المعلومات، وتجعلها دون جدوى، والمعلومات المدسوسة عمدا من قبل الخصم لكى تضلل الطرف المعنى.

وفى الدراسة الشاملة لألكسندر جورج وريتشارد سموك عام ١٩٧٤ عن «الردع فى السياسة الخارجية الأمريكية» جرى التمييز ما بين «البيئة النفسية» للقرار، و«البيئة العملياتية» له، وحذروا بشدة من أخطار التحيزات العرقية. وبينما أكد «هولستتر» على أن مفاجأة بيرل هاربر حدثت بسبب الميل الإنسانى لرؤية ما نريد أن نراه أو نتوقع رؤيته، فإن جورج وسموك قدما أن ذلك جزء من مجموعة من الحواجز النفسية التى عادة ما تقف حائلا دون رؤية الحقيقة الماثلة، ومن ثم تحدث المفاجأة.

هاندل أشار فيما يتعلق بحرب أكتوبر إلى ثلاثة أنواع من الضوضاء أولها تلك التى يقوم بها الخصم من خلال الخداع الاستراتيجى أو التكتيكى، وثانيها الضوضاء التى تنجم عن وجود بيئة دولية أو إقليمية صراعية، وثالثها الضوضاء التى ينزلها الطرف المعنى بنفسه من خلال مفاهيمه ومعتقداته ومدركاته.

وربما كان «روبرت جيرفز» أكثر من وضع إطارا شاملا لتفسير حدوث المفاجأة الاستراتيجية عام ١٩٧٦ عندما وضع الشروط الستة لحدوث المفاجأة وأولها صورة الخصم، وثانيها تحليل المعلومات على ضوء الاهتمامات الجارية، وثالثها تفسير الرسائل القادمة على ضوء الرغبات والتوقعات، ورابعها استخدام أمثلة تاريخية لتفسير وقائع راهنة، وخامسها تفسير المعلومات على ضوء المعتقدات المستقرة، وإذا كانت مخالفة لها، فإن قبولها يكون فى حدود تغيير طفيف فى هذه المعتقدات، وسادسها لا يخص مُستقبل الرسالة، وإنما من مرسلها الذى يتصور أن ما أرسله واضح تماما بينما هو غامض ومتناقض.

وعلى ذلك فإن الصورة التى كانت مستقرة لدى إسرائيل- وكذلك الولايات المتحدةـ قبيل حرب أكتوبر هى أن العرب منقسمون وقادتهم غير قادرين على شن حرب ضد إسرائيل، وأنه لا يوجد أمامهم إلا الخيار الدبلوماسى يتبعونه، وبالنسبة للاتحاد السوفيتى، القوة العظمى فى ذلك الوقت، فإنه خوفا من هزيمة عربية أخرى لن يسمح للعرب بشن هذه الحرب.

مفاجأة أكتوبر كان فيها من كل ذلك، وما كان على أشرف مروان إلا تغذية ما لدى إسرائيل بالفعل من تحيزات فى التفكير والتفسير حول ما يعتقدونه عن جوهر العرب وقدراتهم ومدى عزم القيادة المصرية على استرداد أراضيها.

وعندما جرت مناورات مايو ١٩٧٣ التى أبلغ بها مروان إسرائيل بأنها الحرب، فإنه كان مقبولا منه بعد ذلك أن يفسر عدم حدوثها بأن السادات «ثقلت أرجله» على عكس الواقع الذى كان أنها للإعداد للحرب والتدريب على عبور الحواجز المائية.

الحديث المستمر عن الخلافات المصرية السوفيتية- وخاصة بعد طرد السادات للخبراء الروس من مصر- جعل إسرائيل تفسر جلاء أهالى الدبلوماسيين السوفييت من القاهرة قبل الحرب مباشرة على أنه كان مجرد «أزمة عربية سوفيتية» أخرى، رغم أن موسكو اتخذت هذا الإجراء الذى جرى فى علنية مبالغ فيها من أجل إرسال تحذير لإسرائيل بأن الحرب وشيكة.

وعندما أبلغ مروان إسرائيل بموعد الحرب فى لندن فى العاشرة مساء يوم ٥ أكتوبر كان يعلم أن الساعة منتصف الليل بتوقيت القدس، وأن الليلة هى ليلة عيد الغفران التى جعلت وصول الخبر متأخرا أمرا متوقعا حتى إن وزير الدفاع موشى ديان لم يعرف بالخبر إلا فى الساعة الرابعة صباحا.

كان الهدف ليس الإبلاغ عن الحرب وإنما تأخير عملية التعبئة الإسرائيلية حتى يتم العبور، مع الإبقاء على مصداقية أشرف مروان فى ذات الوقت. قصة أشرف مروان ليست فيلما من أفلام الحركة أو الجاسوسية، وإنما هى جزء لا يتجزأ من معركة وطنية كبرى وشرط من شروط «المفاجأة الاستراتيجية» لحرب عظيمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المفاجأة الاستراتيجية المفاجأة الاستراتيجية



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon