بقلم : عبد المنعم سعيد
الحروب التي نعرفها من التاريخ كان فيها دوماً منتصر ومهزوم، شجعان وجبناء، أبطال وخونة؛ وفي كل الأحوال كانت لها بداية ونهاية. في العصر الحديث كانت توازنات القوى تفرق كثيراً في التعامل مع الحرب، وقامت مراكز البحوث الاستراتيجية على حسابات التوازن الاستراتيجي، وبعد فترة من الغرام بعناصر القوة الصلبة، أصبحت القوة الناعمة للقيادة والمهارة والابتكار عناصر أساسية في الحسابات، ولو كانت مستحيلة الحساب. «التقديرات» الاستراتيجية أصبحت دوماً متحفظة أن هناك ما هو غير معلوم؛ أو نتائج لم ينتوِها أحد. وبقدر ما كانت الحرب العالمية الثانية، الأولي قبلها شهادة على أن النصر استقرّ على توازن القوى الذي كان بالقطع لصالح الحلفاء، بعد دخول الولايات المتحدة في الحرب، ولكن حرب فيتنام لم تشهد على ذلك، فلم يكن في مقدور الولايات المتحدة استخدام السلاح النووي، ومن ثم خرج جزء مهم من حسابات التوازن، ولم يكن في الحساب أن يكون الرأي العام الأميركي عاملاً في ضعف القوة الأميركية، وليس إضافة لها؛ ولكن الأهم أن تعريف الانتصار والهزيمة تغير عندما انهزمت الولايات المتحدة، لأنها لم تستطع الانتصار. أصبح الصبر والقدرة على التحمل سلاحاً كبيراً في الحرب، ولم يعد ممكناً إقناع الفيتناميين الجنوبيين أن الولايات المتحدة سوف تكون قادرة على حمايتهم، والأخطر أن استمرار الحرب أكثر سوءاً من الاستسلام للشمال. استمرت الحرب لفترة 8 سنوات، أكثر من الحرب العالمية الثانية، وبعد عقود طويلة أصبحت فيتنام الموحدة رأسمالية، والولايات المتحدة شريكاً تجارياً رئيسياً لها، ولم يعد معروفاً من الذي انتصر في الحرب الفيتنامية على أي حال.
على أي الأحوال أصبحت حرب فيتنام بعيدة، ونادراً ما تأتي في السياق العام لأحاديث الحروب الكثيرة، بل إن الحرب لم تعد مثيرة لهوليوود لإنتاج أفلام عنها، بعد أن كانت شائعة لوقت طويل، مرة لأن في الحرب كثيراً من الدراما، وكثيراً من الأخطاء؛ وبعدها كان لا بد من وجود أفلام عن الأسرى الذين يجب إنقاذهم، وفي كل الأحوال فإنه كان ممكناً خلط حكايات الحرب بالخيال العلمي. درس مهم لم يتعلمه أحد من الحرب الفيتنامية، وهو أنه عندما تطول الحروب فإنه يأتي وقت لا يعرف فيه كثيرون لماذا ومتي بدأت، ولا لماذا وكيف انتهت. الآن تتوارد الأنباء أن الولايات المتحدة بسبيلها إلى عقد اتفاقية سلام مع حركة «طالبان» في العاصمة القطرية الدوحة، المعلوم أنها تستضيف الجماعات الإرهابية في العالم كافة على أراضيها، ومن بينها «طالبان». وفي يوم ليس ببعيد سوف نعلم التفاصيل أو بعضها، ولكن المهم هو أن الولايات المتحدة لم تكسب الحرب مع «طالبان»، وبعد نحو 18 سنة على أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة فإنها سوف تخرج من أفغانستان، رغم توازن القوى المختل لصالحها، لأن الحرب التي كانت بدايتها حاسمة وأطاحت بـ«طالبان» وأخرجتها من كابل، وحاصرتها في الجنوب، وشرعت بقدراتها العسكرية والاقتصادية في بناء الدولة - الأمة الأفغانية، بعد أن حصلت على مساعدة حلف الأطلسي.
كانت استراتيجية «طالبان» ألا تنتصر، بقدر ألا تكون هزيمة؛ الأمر أشبه بالاستراتيجية الدفاعية التي تتبع في كرة القدم، عندما تجري بين دولة عظمى (البرازيل أو ألمانيا)، ودولة صغرى لا تريد أكثر من «التمثيل المشرف». هذه الأخيرة تتبع استراتيجية دفاعية بحتة، يتراصّ فيها اللاعبون أمام المرمى بحيث يمنعون تسجيل الهدف. ومن المعلوم أنه مع مرور الوقت، والعجز عن التسجيل تتغير معنويات الدولة العظمى. استراتيجية «طالبان» كما كانت استراتيجية «الفيتكونغ» الشيوعيين في فيتنام، مثلما حدث من قبل جورج واشنطن أثناء الثورة الأميركية، فالحقيقة أنه لم ينتصر في أي معركة من المعارك مع القوات الإمبراطورية البريطانية، ما فعله كان الانسحاب قبل الهزيمة، والاستعداد لمعركة جديدة بما تبقى له من جنود؛ وفي النهاية استسلمت بريطانيا لحق تقرير مصير الولايات الأميركية. كل الحروب في الشرق الأوسط تنتمي لهذه النوعية من الحروب، مع قدر أكبر من التعقيد الذي يكفي تماماً لكي تكون الحرب طويلة زمنياً، فكل الحروب الشرق أوسطية كانت في أولها حرباً أهلية بين طرفين، وقبل دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان، وفيتنام قبلها، كانت هناك حرب بين الشمال والجنوب. ولكن هذه الثنائية عادة أيضاً ما تكون داخلها ثنائيات عدة، ومن قبيل التبسيط كانت الحرب العراقية في جولاتها بين أميركا وصدام، أو بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد؛ فكل هذه الثنائيات تشكل مصفوفة أو مصفوفات، تضمن أن الحرب تستمر، ووقف إطلاق النار لا يدوم، والهدنة تكون لالتقاط الأنفاس، وإعطاء موظفي الأمم المتحدة سبباً لوظيفتهم!
الصراعات الجارية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وفلسطين وأفغانستان، هي ما يطلق عليه في العلوم السياسية صراعات ممتدة Protracted Conflicts التي تتوغل عبر المستويات الطائفية والقبلية والمناطقية التي لها مفهوم للزمن، وعلاقته بالصراع تختلف عن ذلك الذي يقرّه العصر الحديث. هذا الأخير يراها مشروعاً له بداية ونهاية، وبناء، وانتهاء بوظيفة مضافة. أما في العصر الشرق الأوسطي فإن العلاقة واستمرارها عبر الزمن هي من طبائع الأشياء. ولذلك فإن الحروب في الشرق الأوسط لا تنتهي، مهما كانت المآسي والصور التي تجري للقتلى والجرحى والمدن المدمرة. ولذلك فإن سقوط صدام لم ينهِ الحرب في العراق، ولا كان مقتل القذافي نهاية لأمور ليبية معلقة، بشار الأسد لم يمانع في تدمير 3 أرباع سوريا، وكان لديه من الصبر ما يكفي لكي يتعايش الآن مع 60 في المائة منها، وبات عليه أن يشهد إلى أين ينتهي الصراع الكردي التركي. «داعش» الآن تعيد بناء نفسها في العراق وسوريا، وقوات حفتر باقية على أسوار طرابلس، والصديق القديم غسان سلامة يتمنى أن تطول هدنة عيد الأضحى. ولكن الحروب في الشرق الأوسط لا تنتهي، لأن أطرافها الشرق أوسطية باقية، الأطراف الخارجية وحدها هي التي تقرر الخروج، ويُعد ذلك داخلياً على الأقل انتصاراً.
الاستثناء حتى الآن من نظرية الحروب الدائمة هذه كان في الدول التي اكتملت سلامتها الوطنية، وفي إطار من الحداثة التي تعطي للحياة معنى. الفلسطينيون والإسرائيليون ظلت دوماً معادلتهم مختلفة، لأن كليهما بقي على الأرض، وبين نهر الأردن والبحر المتوسط يوجد 12 مليون نسمة، نصفهم من الفلسطينيين، والنصف الآخر من الإسرائيليين، ولا يستطيع الفلسطينيون إلقاء الإسرائيليين في البحر، ولا يمكن للإسرائيليين إلقاء الفلسطينيين في صحراء الشرق الأوسط الشاسعة. ومنذ تسعينات القرن الماضي أصبح الصراع مختلطاً بالتعايش داخل إسرائيل مع العرب، وداخل الضفة الغربية مع المستوطنات. ليس مدهشاً أن أقدم صراعات المنطقة وأكثرها شهرة هي الأقل تكلفة في الضحايا والتدمير، مقارنة بما جرى في حروب الشرق الأوسط الأخرى. في فلسطين لم يعد أحد يتذكر فيتنام، وإنما كيف يكون الاقتراب من علاقة تجعل العيش ممكناً بأقل التكاليف.