بقلم - عبد المنعم سعيد
فى خطابه أمام الندوة التثقيفية التاسعة والعشرين للقوات المسلحة، وبمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لحرب أكتوبر المجيدة، فتح الرئيس عبدالفتاح السيسى ملفاً جديداً لم يسبق لأى من رؤساء مصر السابقين أن تعرضوا له. فلم يحدث أن الرئيس جمال عبدالناصر وجد أن هناك معضلة ما تتعلق بوعى المصريين، سواء كان مزيفا أو صادقا، بل كان هناك اعتقاد جازم بأن «الشعب» له ملكات خاصة فى التعامل مع التحديات المختلفة، وفى الميثاق الوطنى الذى بات واحدا من وثائق الدولة الأساسية، فإنه وقع عليه أن «يلقن طلائعه الثورية أسرار آماله الكبرى».
كان هناك نوع من «الإلهام» ينتقل من الجماهير إلى القيادة، لا يقول فقط بالآمال والأحلام وإنما أيضا بكيفية تحقيقها اعتمادا على تلك الذخيرة الكبيرة من الملايين التى تقول إن الجموع جاهزة للبناء بقدر ما هى مستعدة للمعارك. كان كل ذلك مناسبا تماما للمرحلة الثورية التى كانت تعيشها مصر خلال الخمسينيات والستينيات حتى جاء الوقت الذى باتت فيه الآمال أكثر واقعية، والأحلام أقل طموحا، وبات الحشد الشعبى أكثر تواضعا.
لم يكن الرئيس السادات يتحدث كثيرا عن «الشعب» وإنما عن محركاته التى رآها فى العلم والإيمان والانفتاح على العالم والتعلم من الأمم التى سبقتنا، وكما فعل فى الحرب مع إسرائيل عندما جعل النصر ممكنا من خلال أهداف محددة لحرب محدودة تفتح أبواب السلام واستعادة الأرض المحتلة من غاصبيها.
الرئيس مبارك كان مستسلما لما رآه من وعى المصريين، وبشكل ما تعامل معه كما لو كان نوعا من القدر المحتوم والقضاء النافذ، وكان الدرس الذى أخذه من مظاهرات الخبز عام ١٩٧٧ أن الإصلاح سوف يكون له ثمن على حساب الدولة. وعندما جمع المثقفين وأساتذة الاقتصاد فى مؤتمر للإنقاذ فى مطلع حكمه، وجد أن جوهر التوصيات أن تبقى الأمور على ما هى عليه، أو تعود إلى ما كانت عليه. وعندما بدأ فى الإصلاح فى العقد الأخير من حكمه، قامت الثورة التى بدأها الشباب للتغيير، وانتهت إلى أن أخذها الإخوان إلى الخلف.
الرئيس السيسى فتح ملف «الوعى» باعتباره واحدا من أهم أعمدة النهضة القائمة على الإصلاح التى لا يمكنها أن تقوم ما لم يعرف الشعب على سبيل المثال أولا أن لكل أمر ثمنا. «لا غذاء بالمجان» لم يكن أبدا مثلا مصريا، رغم أنه جزء أصيل من ثقافة ووعى الشعوب المتقدمة، ورغم الوله المصرى بما يراه فى دول الشمال من حيث المظهر والمخبر، فإن الذائع لديه أيضا هو أن ما يراه يخص أمما أخرى. المدهش فى الأمر أن الطائفة من الشعب المنوط بهم قضية «الوعى» مثل المثقفين والإعلام ومن شاركوا فى العملية التعليمية على مدى العقود الماضية، فإنهم نادرا ما قدموا لثقافة العمل، وفكر الاجتهاد.
كان كافيا فى كثير من الأحيان كثرة الحديث عن الفقر والفقراء، والناس الغلابة، ولكن كانت الندرة فى الحديث عن «الثروة» التى تغير الحال وتصلح الأوضاع. بشكل ما فإن الحديث المصرى كان يغلب عليه تياران: الأول يرى فى مصر من جغرافيا ومن تاريخ ما يجعلها أعظم الأمم التى تجعل كل أمم الدنيا تتآمر عليها؛ والثانى جعل من الضعف والهوان صناعة قومية نتيجة مؤامرات ما أنزل الله بها من سلطان. «المؤامرة» فى الأول والآخر، هى نوع أو آخر من «الشعوذة» الإنسانية التى تعفى الإنسان والشعب من المسؤولية، فما هى إلا أمور غامضة تجرى فى السر، تجلياتها مرعبة، وفى العادة فإنه ما باليد حيلة.
الوعى له علاقة وثيقة بالمسؤولية والعقل والعلم والمعرفة فى عمومها وكل ما يجعل المواطن قادرا على التحليل والتعرف على الأسباب والقدرة على تحقيق تراكم الطاقة والقيمة. هو الطريق الذى يجعلنا نعرف كيف نبدأ، ومتى ننتهى، ونتجنب المخاطرة وننتهز الفرصة، وما بينهما نعرف الكثير عن الزمن الذى فيه نقلد ونبتكر وما بين هذا وذاك ننتظر. الوعى من ناحية أخرى مسولية القادة والنخبة أو باختصار كل من له قدر ودور فى اتخاذ القرار، بما فيها المؤسسات التى تنشر الوعى لا عن طريق المزايدة أو المناقصة، وإنما عن طريق المناقشة والحوار، والإيمان بأنه لكل أمر أوجه، ولكل مسافة صبر، ولكل قول حكمة. هل آن الأوان أخيرا لكى نفتح فى كتاب مصر فصلا هاما عن الوعى؟!.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع