بقلم- عبد المنعم سعيد
شرفنى الأستاذ الكبير مكرم محمد أحمد بدعوة كريمة للمشاركة فى أبوظبى فى أعمال الاجتماع الرباعى (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) لرؤساء الهيئات الإعلامية. وفضلا عن غنى اللقاء مع الأستاذ المتدفق دوما بالمعرفة والحماس، والزملاء من المؤسسات الصحفية بما لدينا جميعا ما نتداوله من تحديات، فإن المفاجأة الكبرى جاءت مع أولى الفعاليات حينما دعينا جميعا لحضور مجلس الأمير الشيخ محمد بن زايد قبيل أذان المغرب وتناول طعام الإفطار. كان التصور الذى لدينا أن اللقاء سوف يكون له طابع الحديث عن أحوال المنطقة والعلاقات بين الدول الأربع؛ أو أنه سوف يكون مشبعا بالأحاديث الدينية والرمضانية المعتادة فى هذه المناسبات. ولكن المفاجأة الكبرى لم تكن لا هذا ولا ذاك، وإنما محاضرة من البروفيسور هيو هير، الأستاذ فى برنامج الفنون والعلوم بمعهد ماساتشويستس للتكنولوجيا الشهير فى العالم وموطنه مدينة كامبريدج/ بوسطن الأمريكية. لم تكن نوعية اللقاء هى وحدها المفاجأة، ولكن مع دخول المحاضر إلى قاعة المجلس حتى تبين أنه يسير على أطراف صناعية عرفنا أن الساق فيها كان من مادة التتانيوم، أما القدم فكانت من مواد مطاطية.
الرجل تقول إن اهتماماته البحثية هى تطبيق مبادئ الهندسة العصبية للأطراف الإنسانية من أجل تصميم أطراف إلكترونية، تؤهل الإنسان وتعزيز قدراته الجسدية عن طريق صنع الأحذية المطاطية التى تزيد من كفاءة حركة القدم عند المشى والجرى. وعلى نفس الطريق فإنه قام بتصنيع الهيكل الخارجى للساق، وتطوير مجموعة من آليات تقويم العظام والأطراف الاصطناعية للعمل كتقنيات مساع��ة فى علاج إعاقات الساق الناتجة عن البتر، والسكتات الدماغية، والشلل الدماغى، وتصلب الأوعية والأعصاب. بطاقة التعريف بالرجل لا تقل عن مقدمة سوف تقود إلى جائزة نوبل فى مجال أو آخر، ولكن بعيدا عن كثافة النشر الذى قام به صاحبنا فى واحدة من أعرق جامعات العالم، فإن قصته شخصيا تجعل منه محطة إنسانية جاذبة فيها من الإصرار والعزيمة ما يهز جبالا كثيرة. البروفيسور هيو هير كان محبا فى صباه لهواية تسلق الجبال، وفى واحدة من مغامراته وفى سن السابعة عشرة جرت له حادثة وقوع من جبل أدت إلى بتر القدم والساق وحتى جزء من الفخذ، ومن وقتها بات حلمه أن يعود لتسلق الجبال مرة أخرى!. كانت القاعدة التى اعتمد عليها أنه لا يوجد عيب فى الإعاقة التى حدثت له، وإنما العيب كل العيب هو ألا تستطيع التكنولوجيا معالجة ذلك وليس فقط تعويض الإنسان عما فقده وإنما أكثر من ذلك تجعله أفضل حالا!.
سارت المحاضرة فى مسارها وكان أول ما تعلمته أن هناك فارقا ما بين إعادة تركيب أطراف للإنسان أكثر تفوقا من الأطراف الأصلية، وهذه تسمى «بايونيك Bionic»؛ وخلق إنسان آلى كلية وهذا يسمى «سايبورج Cyborg» مثل الذى حضر إلينا فى مصر منذ أسابيع تحت اسم «صوفيا». الحالة التى كنا نستمع إليها فى مجلس الأمير الرمضانى كانت من النوع الأول ويقوم على أربع حقائق: أولاها أن «المخ» البشرى هو مركز وعى الإنسان كله، وفى أنسجته توجد ٣٠٠٠ مجموعة من الخلايا التى يوجد بها علاقات إلكترونية تعمل طوال الوقت أو تتعرض لعمليات متعاقبة من اليقظة والثبات تشبه إلى حد كبير ألواح الخلايا الضوئية. وثانيتها، ورغم أن العلم لم يصل بعد إلى كل المعرفة عن المخ إلا أننا نعلم أن به مراكز ينتج عنها المشاعر مثل الحب والكراهية، والفرح والاكتئاب، وأمراض مثل الشيزوفرينا والشلل. وثالثتها أن «الفراعنة» فى مصر بدأوا فى التاريخ القديم طريقا قادنا الآن فى القرن الواحد والعشرين إلى تخليق الأنسجة، وصناعة الأطراف الاصطناعية. ورابعتها أن هناك نظاما اتصاليا بين المخ والأطراف، وكافة أجزاء الجسم الإنسانى، يقوم على عقد إلكترونية؛ وهذه أيضا يمكن تخليقها عن طريق تصنيع «إلكتروهات» تنتشر بين المخ والأجزاء التعويضية.
حينما سأل أحد النظارة عما إذا كان البروفيسور يود لو أنه يستعيد سيقانه وأقدامه الأصلية إذا بإجابته بالنفى، وكانت أسبابه أن ما لديه الآن فيه ميزة أنه يمكنه التحكم فى طوله، وكذلك فإنه يمكنه تغيير ما لديه كلما تقدم العلم، كما أنه أكثر كفاءة فى عملية تسلق الجبال التى يعشقها وقد عاد إليها مرة أخرى. إن التطور الجارى الآن فى علوم «النانو» و«الإلكترونيات» والاتصالات اللاسلكية والذكاء الاصطناعى فتحت الباب واسعا ليس فقط لتعويض جرحى الحروب والإرهاب وحوادث الطرق عن أطرافهم المفقودة، وإنما استعادة كافة وظائفها وبكفاءة أكبر مما كانت عليه.
شاهدت الرجل وهو ينهى محاضرته والإجابة على الأسئلة، ثم تحرك نازلا من على المنصة لكى يتقدم له الشيخ محمد بن زايد ومن معه من قادة الإمارات للسلام عليه وشكره على محاضرته القيمة. علم الله الإنسان ما لم يعلم، كما أنه علم آدم الأسماء كلها، ووضعه على طريق المعرفة ونشرها فى محاضرة رمضانية. وكما علمت فإن تقليد محاضرات مجلس الأمير تعقد بطريقة دورية فى شهر رمضان وفى شهور العام الأخرى، حيث تكون جميع قيادات الدولة حاضرة لكى تدرك ما وصل إليه العالم من العلم والمعرفة فى المجالات المختلفة.
القاعدة التى اعتمد عليها البروفيسور هيو هير أنه لا يوجد عيب فى الإعاقة التى حدثت له، وإنما العيب كل العيب هو ألا تستطيع التكنولوجيا معالجة ذلك.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع