توقيت القاهرة المحلي 20:53:23 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكمون الإستراتيجى

  مصر اليوم -

الكمون الإستراتيجى

بقلم - عبد المنعم سعيد

خلال العقدين الأخيرين انتقل أكثر من مليار من البشر من الفقر إلى اليسر فى الطبقات والشرائح الاجتماعية الوسطي؛ وكانت الأغلبية الساحقة من دولتين: الصين والهند. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن أحوال العالم أفضل الآن عما كانت عليه قبل عقود، وبالتأكيد قبل قرون حيث ارتفعت مستويات المعيشة فى دول كثيرة، وتراجعت معدلات حدوث المجاعة، والأوبئة. ولم يكن لذلك أن يحدث لولا الثورة العملية والتكنولوجية، وتزايد الثروات فى الدول، والأهم من هذا وذاك، وربما باستثناء منطقة الشرق الأوسط، تراجع الصراعات الدولية والحروب الأهلية. كل ذلك لم يكن ممكنا حدوثه لولا أن الغالبية من دول العالم أصبحت تسعى إلى التقدم والتنمية، وحدث ذلك من خلال حشد وتعبئة الاستثمارات الداخلية والخارجية وراء تحقيق تراكم رأسمالى يسمح للدولة بتحقيق معدلات عالية للنمو تنقلها من صفوف الدول النامية إلى تلك المتقدمة. ولكن واحدا من أهم شروط هذه النقلة الكيفية هو السير فى طريق الكمون الاستراتيجى بمعنى أن تتجنب الدولة الدخول فى صراعات خارجية، وأن تجعل سياستها فى الخارج أداة فى الحصول على الاستثمارات.

وأذكر خلال زيارتين شاركت فيهما فى بعثتين صحفيتين للصين فى عامى 1998 و2002 قامت بهما مؤسسة الأهرام أن الزعماء فى الدولة الصينية كانوا يقاومون بشدة أمرين: أولهما أن الصين دولة متقدمة، فكان الإصرار هو على أنها دولة من دول العالم الثالث الفقيرة التى ينبغى معاملتها فى المحافل الاقتصادية الدولية على هذا الأساس؛ وثانيهما أن الصين لا تسعى إلى أن تكون قوة عظمي؛ ورغم مشكلاتها الإقليمية الكثيرة فإنها تسعي، وبكرم، لحلها بالطرق السلمية كما فعلت مع قضايا هونج كونج وتايوان ومشكلات الحدود والنزاعات على الجزر. لم يكن أحد يتحدث لا عن الدور الإقليمى للصين، ولا عن الدور العالمي؛ وعندما تساءلنا لماذا لا تستخدم الصين حق الفيتو وإنما تمتنع عن التصويت فى مجلس الأمن فى قضايا تهمنا؛ كانت الإجابة أن الصين لا تستخدم هذا الحق إلا فى القضايا التى تخصها مباشرة. وعندما سأل أحد الزملاء مسئولا عالى الشأن فى وزارة الخارجية الصينية عن موقف الصين من الوجود الأمريكى المباشر فى أفغانستان المجاورة للحدود الصينية؛ كانت الإجابة هى أن الصين ترحب بهذا الوجود لأنه لمواجهة الجماعات الإرهابية. كانت الولايات المتحدة فى الحقيقة تحارب، فيما بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، بالوكالة عن الصين!. وأكثر من ذلك كانت الصين تحصل، وفى المتوسط، على قرابة 40% من رؤوس الأموال الغربية المستثمرة فى العالم الثالث كله.

ولكن الصين ليست المثال الوحيد، فلا اليابان، ولا كوريا الجنوبية، ولا البرازيل حتى حكمها اليسار، ولا ماليزيا كان لها دور دولى مؤثر؛ واقتصرت الأدوار الإقليمية لهذه الدول على تلك المتعلقة بالتعاون، ولم تقرر دول آسيان التى تقدمت أن تفعل أكثر من الحديث عن الأمن الإقليمى فى لقاءات أكاديمية. وحتى عندما ضغطت الولايات المتحدة على اليابان وكوريا الجنوبية لكى يسهما فى تكاليف حرب تحرير الكويت، لم تزد المشاركة عن المال وأحيانا مساهمات طبية. وفى كل هذه الحالات كانت الدول تمارس حالة من الكمون الذى بمقتضاه تركز الدولة تماما على عمليات البناء الداخلي، وتتجنب قدر الإمكان المناوشات والمشاغبات والتورطات الخارجية، وإذا كان لابد مما ليس منه بد فإنها تقوم بالحد الأدنى الممكن وسط الظروف الدولية الصعبة.

مصر على العكس خلال تاريخها فيما بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت الفتح الاستراتيجى الذى يتيح لها علاقات إقليمية ودولية متميزة، فسأهمت فى إنشاء جامعة الدول العربية، ودخلت حرب فلسطين الأولى رغم التحفظات فى مجلس الشيوخ والوزراء، وهى الحرب التى كانت بداية حرب امتدت إلى أخريات (1956، 1967، 1969/1970، 1973) مضافا لها حربا فى اليمن، والتورط فى عدد من الصراعات الإفريقية، والمشاركة فى حرب تحرير الكويت. كان لهذه المرحلة بحلوها ومرها ظروفها الخاصة التى يستحسن تركها للمؤرخين، ولكن الأمر المهم هنا أن التركيز الداخلى على بناء الدولة فقد الكثير من قوة الدفع والعنفوان، بل ونمت مدرسة كاملة فى السياسة الخارجية المصرية قوامها أن الفتح الاستراتيجى يدعم عملية التنمية المصرية، بما حصلت عليه مصر من منح ومعونات ومكانة فى النظام الإقليمى والدولي.

الآن فإن مصر دخلت مرحلة جديدة فى سياساتها الخارجية وحماية أمنها القومى تبدأ من حقيقة أن البناء الداخلى هو حجر الأساس فى حماية مصر، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية فى تعبئة البيئة الخارجية لدعم الداخل المصري. والحقيقة الثانية أن التركيز على البناء يواكبه سياسات خارجية تقوم على التعاون والحد الأدنى من الاشتباك فتحافظ على اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتدير قضية المياه مع إثيوبيا بحيث لا تقود إلى صراع وإنما إلى عمل مشترك، وإذا كان ضروريا كما هو الحال مع ليبيا فإن القوات المسلحة تستخدم بحزم وحساب ولإرسال الرسائل أن مصر قادرة على استخدام القوة عدما تقتضى الحالة.

هنا فإننا نجد الحركة المصرية النشيطة تقتصر على الحدود المباشرة لمصر مع فلسطين وإسرائيل فى الشمال الشرقي، ومع ليبيا فى الغرب، ومع السودان وإثيوبيا وإرتيريا فى الجنوب. هذه كلها تمثل القضايا المباشرة التى تتعلق بالأمن القومى المصري، وفيما عداها فإنها تلتصق مباشرة بعمليات البناء الداخلي، ومن ثم كانت هناك اتفاقيات تخطيط الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية التى فتحت أولا أبواب الاستغلال المصرى للمنطقة الاقتصادية الخاصة بها فى البحر الأحمر؛ وثانيا أبواب تعمير سيناء؛ كما كانت اتفاقية تخطيط الحدود البحرية مع قبرص التى قادت إلى تنمية حقلى ظهر ونور للغاز، والتعاون فى منطقة شرق البحر المتوسط فى نقل وتسييل وتصنيع الغاز على الأرض المصرية. وإذا أخذنا كل ذلك مع تنمية إقليم قناة السويس فإن مصر تصير مركزا إقليميا للطاقة. الكمون الاستراتيجى المصرى خلال مرحلة البناء الراهنة يعطى الفرصة لمصر لم تتوافر لها خلال عقود ماضية حيث كانت العيون على الخارج تفقد الداخل مركزيته ومحوريته فى التفكير الوطنى المصري.

نقلا عن الاهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكمون الإستراتيجى الكمون الإستراتيجى



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 10:20 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن
  مصر اليوم - فواكه طبيعية تعزز صحة الكلى وتساعد في تطهيرها بشكل آمن

GMT 11:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تتفاوض مع شركات أجنبية بشأن صفقة غاز مسال طويلة الأجل

GMT 09:48 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

جيش الاحتلال يعلن اغتيال 5 قادة من حماس

GMT 10:21 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

ميلان يفرض سيطرته على الدوريات الكبرى برقم مميز

GMT 08:40 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الدلو الخمس 29 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 08:19 2020 الخميس ,13 آب / أغسطس

تعرفي على 5 طرق مبتكرة للتنظيف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon