بقلم - عبد المنعم سعيد
ربما يكون الأمر كله محض صدفة أنه فى يوم واحد رست فيه مركبة الفضاء إنسايت على سطح كوكب المريخ؛ ونجحت البعثة الأثرية المصرية العاملة فى جنوب شرق هرم الملك أمنمحات الثانى بمنطقة دهشور الأثرية فى الكشف عن عدد من الدفنات الأثرية بداخلها توابيت مصنوعة من الحجر الجيرى بداخلها مومياوات مغطاة بطبقة من الكارتوناج الملون على شكل آدمي. بقية الخبر يمكن متابعته فى عدد صحيفة الأهرام يوم الأربعاء 28 نوفمبر المنصرم كما أنه تردد فى عدد من المصادر الدولية، أما أخبار المركبة الأمريكية فقد وردت فى كل الصحف العالمية تقريبا. كان الأمريكيون يحفرون فى الفضاء مسارا بين الأرض والمريخ؛ أما المصريون فقد كانوا يحفرون فى الأرض مسارا بينهم وتاريخ الإنسانية.
الرحلة الأمريكية تسير فى اتجاه المستقبل، أما الرحلة المصرية فإنها تتوجه إلى الماضي؛ ومع ذلك فإن المؤكد أن ما يجمعهما كان استكشاف الزمن ومعه المجهول الذى قد يجيب عن أسئلة علمية لم يصل الإنسان إلى إجاباتها بعد. المدهش فى الأمر أن ما تحقق من تراكم معرفى حول الفضاء والسماء والأكوان خلال العقود السبعة الماضية منذ خرجت أولى المركبات إلى خارج المدار الأرضي؛ ومنذ خرج يورى أليكسى جاجارين السوفيتى إلى الفضاء فى 12 أبريل 1961 ودار دورة كاملة حول كوكب الأرض، كان هائلا، وبشكل من الأشكال غير كل معالم الحضارة البشرية. على العكس من ذلك فإن أكثر من قرنين تقريبا من العمل الأثرى المنظم والقانونى فى مصر مازال التراكم المعرفى حول التاريخ المصرى على أهميته، وما أدى إليه من تغيير فى نظرة المصريين والعالم إلى تاريخهم القديم، إلا أن الأسرار العلمية التى انكشفت ظلت أقل بكثير من تلك التى ظلت خافية على الاستنتاج العلمي. ثلاثة آلاف عام من التاريخ المعلوم ومع ذلك فقد ظل ما هو غامض أكبر بكثير مما هو واضح وصريح.
المؤكد أن القارئ الكريم يعلم تماما أن كاتب المقال ليس عالما فى علم الكوزمولوجيا أو حركة الأكوان والأفلاك، كما أنه ليس عالما فى الآثار أو التاريخ المصرى القديم؛ ولكنه مثل الكثيرين العاملين فى مهنة الكتابة لديه قدرة على الدهشة من المفارقات التى تجرى فى عالم اليوم. كان جيلنا ممن حباهم الله العيش فى عصر غزو الفضاء والخروج الإنسانى إلى ما وراء الكوكب، والسباق الأمريكى السوفيتى للوصول إلى القمر، وبعد عقود من هذه الإثارة وجد نفسه غارقا فى الإثارة الأكبر للأقمار الصناعية التى تدور فى المدار القريب لكوكب الأرض وتبث قنوات تليفزيونية لا حصر لها؛ والآن والذى لا يقل إثارة، أن جيبه حيث التليفون المحمول بات يستقبل مكالمات تليفونية من كل أنحاء الأرض، وفيديوهات ورسائل مقروءة ومسموعة ومرئية شخصية تماما، وعامة جدا تماما أيضا.
أصبحت هناك محطة فضائية آهلة بأفراد من جنسيات عدة، وذهبت منذ ست سنوات مركبة كيوريستى إلى كوكب المريخ حتى تلتها الأكثر تقدما تلك التى كانت سببا فى هذا المقال إنسايت لكى تغذينا بمعلومات عن مناخ الكوكب، وتربته، والزلازل الذى تجرى فيه. القضية هنا ليست فقط ماذا سوف تجنى البشرية من الرحلة، وإنما كيف وصلت المركبة فى الأصل إلى هناك، كيف كانت قوة الدفع التى جعلتها تسير فى الفضاء ستة أشهر كاملة حتى تصل إلى موعدها الموعود، وما هى طبيعة الآلات التى تحملها لكى تحصل على هذه المعلومات من تحليل عينات؟ المؤكد أن كل ذلك سوف يجد طريقه إلينا بشكل أو بآخر ليس خلال قرون، وإنما سنوات قليلة بغض النظر عما إذا كنا ننوى استعمار الكوكب الأحمر أم لا، وعلى أى الأحوال فقد كان هذا ما أعلنت عنه دولة الإمارات العربية المتحدة لبناء مدينة على سطح الكوكب فى القرن القادم.
خلال الأعوام القليلة الماضية تسارعت كثيرا عمليات اكتشاف الآثار الفرعونية من أسرات مختلفة، وبعد أن كان ما نكتشفه له علاقة بالملوك العظام، وبالمعمار المهيب للأهرامات والمعابد، فإننا الآن أصبحنا نكتشف آثارا للحراس والكهنة ومن يقومون بخدمة العرش. ومع ذلك فإن هناك القليل من اكتشاف العلوم التى قام عليها كل ذلك، بل أن هناك القليل منا يسد الرمق حول معرفة القصة المصرية، ولولا كتابات سليم حسن وزاهى حواس لكان اعتمادنا كاملا على تلك المصادر الأجنبية التى حاولت أن تجعل لقصتنا معنى أحيانا وأغرقتها فى الخرافة أحيانا أخري.
المعضلة الكبري، فى الأغلب والأعم، أن اكتشافاتنا كانت دوما تحدث ولا يوجد فى أذهاننا إلا كيف ستكون مهمة لصناعة السياحة، وعما إذا كان السائحون سوف يعشقونها. لا شك أن القصة الفرعونية تشغل بال العالم المتحضر باعتبارها واحدة من لبنات الحضارة الإنسانية، وبشكل ما فإن الحفاظ عليها يشكل هما إنسانيا ولذلك تشاركت دول العالم لكى تنقذ آثار أبو سمبل.
ومع ذلك فإن الاكتشافات فى الزمن الذى مضى ليست أقل أهمية من الزمن الذى سوف يأتى ليس فقط لأنها تحكى قصة بلادنا فى صعودها وهبوطها، وإنما أكثر من ذلك لأنها تلح بالتساؤل كيف فعلوها؟ كيف بنوا الأهرامات، وكيف أقاموا المعابد، وكيف جعلوا المقابر تختفى لآلاف السنين، وكيف حفروا الجرانيت، وما هى تلك الابتسامة الغامضة التى تظهر ليس فقط على تمثال أبو الهول، وإنما تقريبا على كل التماثيل المصرية، وكيف تعامل هؤلاء مع ظواهر مثل التصحر والفيضانات وغيرها من ظواهر.
المؤكد أن هناك بعضا من الكتب العلمية حول كل ذلك، ولكن أيا منها ليس جزءا من المعرفة العامة التى تجعل كل زاوية من زوايا العمل فى مركبة إنسايت وينتج عنها تصبح متاحة معقدة ومبسطة للعلماء فى العالم كله، والأهم متاحة للمصريين الذين تتكون هويتهم من طبقات مركبة يقع فى قاعدتها الحضارة الفرعونية. سوف يتعلم العالم الكثير من رحلة المريخ، ولن يمر وقت طويل حتى نحصل على بعض من منتجات الرحلة، ولكن رحلاتنا فى التاريخ المصرى على الأرجح سوف تظل أعظم فوائدها ملكا لآخرين علما وسياحة!
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع