بقلم - عبد المنعم سعيد
منذ أن جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وهو في عراك مع الإعلاميين. ويتضح هذا من اتخاذه وسيلة أخرى لبث تصريحاته وتعليقاته ألا وهي وسيلة التواصل الاجتماعي النشطة (تويتر)، بل إنه عدَّ الإعلام الأميركي باعتباره «عدواً» للدولة الأميركية؛ باعتباره، وفقاً لكلامه، المصدر الدائم للأخبار الكاذبة أو المزيفة، وسبب الانقسام الشائع في المجتمع، والتحيز دوماً إلى المصالح الخاصة لا إلى المصلحة الوطنية.
لم تعد المعركة الدائرة حول حرية التعبير أو إذاعة أخبار قبل وقتها المناسب، وإنما هي معركة سياسية من الطراز الأول بين رئيس منتخب فاز على المرشح المفضل لدى الإعلام وهي هيلاري كلينتون، ومن ساعتها وهو يكسب معركة بعد الأخرى.
المسألة أحياناً تمكن صياغتها على أنها معركة بين الفلسفة الليبرالية أو التيار الليبرالي، والفلسفة المحافظة أو الوطنية القومية (للبيض في معظم الأحوال) من جانب آخر. هي مواجهة واقعة في معظم البلدان الغربية هذه الأيام، ولكنّ لها وقعاً خاصاً في الولايات المتحدة حيث الحرب صريحة والجفاء شائع، والكلمات خارجة عن المألوف والمتوقَّع في دولة «ديمقراطية». الحوارات كثرت للغاية حول تغيرات عميقة داخل المجتمعات الغربية وصلت إلى إطلاق ما يسمونه «الديمقراطية غير الليبرالية»، أي تلك التي تحافظ على الإجراءات الواجب اتباعها وفقاً للدستور والقانون، ولكنها لا تعرف التسامح ولا الاستماع إلى «الرأي الآخر»، ونتيجتها دائماً استقطاب حادٌّ. الرئيس ترمب منذ اللحظة الأولى لانتخابه واجه نوعين من العوار: أولهما أنه فاز بأغلبية المجمع الانتخابي ولكنه لم يفز بالأغلبية الشعبية، ولما كان المجمع الانتخابي هو الحاسم في هذا الأمر، إلا أنه لم يمنع الغصة في الفوز دون أغلبية من الناخبين. والآخر ما يعرف بالصلات الروسية في الانتخابات.
لم تنتهِ قصة انتخاب الرئيس ترمب مع انتهاء الإجراءات الانتخابية، ولم يحدث معه ما حدث مع جورج بوش الابن الذي فاز أيضاً بأغلبية المجمع الانتخابي فقط، ومع ذلك فإن شرعيته ظلت راسخة؛ وكانت النتيجة أن دونالد ترمب ظل في حالة انتخابية منذ اليوم الأول لسكنه في البيت الأبيض!
الشائع دائماً في المجتمعات الديمقراطية أن تدار المعركة بين القيادة والإعلام عن طريق الأحزاب السياسية، والمناصرين السياسيين للرئيس، ومن يتفقون معه في السياسات ويعتقدون في خطأ السياسات التي تقترحها الأطراف الأخرى في العملية السياسية.
في أميركا الرؤساء دوماً، ربما باستثناء ريتشارد نيكسون، يرتفعون بمنصبهم إلى ما فوق الجدل الحاد. وفي العادة فإن الرئيس يقرّب صحافيين وإعلاميين ويمنحهم مقابلات خاصة؛ الصحافي بوب وودورد كانت له هذه المكانة، وخرج بعدة مقابلات عميقة أنتجت كتباً مع كلينتون وبوش الابن وأوباما. وعندما حاول مع ترمب الحصول على نفس المكانة كان الرفض، فنتج عنه كتاب «الخوف» الذي اعتمد على عناصر من داخل البيت الأبيض. الرئيس كانت له طريقة مختلفة عن سابقيه، وربما أيضاً عن لاحقيه، فقد اعتمد المواجهة المباشرة أمام الرأي العام، وكانت النتيجة هي زيادة شعبيته خلال الفترة القصيرة الماضية. وفي معظم استطلاعات الرأي العام فإن نسبة تأييد ترمب كانت 40 في المائة، وهي نسبة لا تمثل الأغلبية في الاستطلاعات، ولكنها كافية للفوز بالأغلبية ساعة التصويت الفعلي بسبب حماسها والتزامها بمرشحها، ولأن الـ60 في المائة الباقية تحب التعبير عن رأيها، لكنها في كثير من الأحيان لا تذهب للانتخاب على الإطلاق. الأقلية اللاتينية من دول أميركا الجنوبية لاقت الكثير من الهجوم من ترمب، وبالفعل فإنها لا يوجد لديها الكثير من الاعتزاز به، ولكنها أكثر الأقليات في التاريخ الأميركي تجنباً للانتخاب.
خلال الأشهر الأخيرة اعتمد ترمب أسلوباً جديداً في مواجهته مع الإعلام، حيث بدأ يأخذ قضايا بعينها ويعبئ الرأي العام حولها بطريقة تجعل معارضة الإعلام له معبّرة عن سياسات خرقاء تتناقض مع المصالح الأميركية. في معركة اختيار القاضي الأميركي «كافانو» خرج ترمب فائزاً، ليس فقط بتثبيت اختياره لقاضي المحكمة الدستورية العليا، وإنما لأنه ضَمِن أغلبية 5 ضد 4 في التوازن الليبرالي والمحافظ في المحكمة.
كان تركيز ترمب على ما يتمتع به القاضي من احترام، وتاريخ قضائي، وجعل ذلك في مواجهة اتهام بالاغتصاب مضى عليه عقود ولا يوجد دليل قضائي وقانوني على حجيته. الحقيقة هنا لم تكن هي القضية، وإنما القدرة على حشد الجمهور حول ما يعد حقيقة. الإعلام استند إلى أنه يستحيل لسيدة وأستاذة جامعية أن تدّعي على نفسها وقوع الاغتصاب؛ ولكن ترمب استند إلى «قاعدته» التي ترى أنه لا يمكن الاعتماد على ادعاء دون بيّنة. زاد من المكسب أن الإعلام بعد أن فقد القضية في الصحف وشاشات التلفزيون والمواقع الإلكترونية، فإنه فقدها مرة أخرى عندما لجأ إلى الشارع الذي أخذ في مواجهة أعضاء في مجلس الشيوخ، وخرجت المظاهرات لكي تمنع المجلس من اتخاذ القرار. الأمر نفسه تكرر مرة أخرى عندما بدأت قافلة من المهاجرين في التجمع بين مواطني غواتيمالا وهندوراس، وتقدموا نحو الحدود الأميركية عبر المكسيك وفي الطريق تجمع معهم كل من يريد اللجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية. الإعلام الأميركي أخذ القضية على أنها قضية فقراء يعانون من عنت العيش في بلادهم وجاءوا إلى أميركا كما جاء ملايين قبلهم. الصيحة باتت تطبيق القانون الذي كان يعني أولاً أن تكون القافلة موضع رعاية حتى يبتّ القضاء في حالة كل فرد فيها، وثانياً وجود مأساة إنسانية تضع ترمب والحكم في أميركا كلها موضع التساؤل.
ترمب من جانبه وجد القضية الرئيسية في حملته الانتخابية تعود مجسّدة في شكل زحف كثيف لا يرعب فقط قاعدته الانتخابية الجمهورية المحافظة البيضاء، إنما معهم كثر في الولايات المتحدة باتوا يجدون في الهجرة واللجوء نوعاً من الغزو. لم ينسَ ترمب ليس فقط أن يصف الزاحفين بأن بينهم مجرمين ومغتصبين، وإنما أضاف إلى الأمر أن بينهم «شرق أوسطيين»، أو بالمعنى السياسي «إرهابيين»! ترمب كان يريد أن يبني سوراً بين أميركا والمكسيك، ويبدو أنه حصل عليه، أراد الإعلام الأميركي أم لم يُرِد!
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع