بقلم - عبد المنعم سعيد
فى الستينيات من القرن الماضى غمر الدنيا كلها «التيارالاشتراكى»، كانت الكتلة الاشتراكية قد تكونت فى الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو والصين وعدد من دول آسيا وأفريقيا التى عندما استقلت وجدت «غصة» فى اتباع الطريق الرأسمالى، لأنه كان سمة ملاصقة للدول الاستعمارية السابقة، فكان العزوف عنه فى الدول المستقلة حديثا. ورغم الشعارات الكثيرة التى لازمت الفكرة «الاشتراكية» مثل العدالة بين الطبقات وإنصاف الفقراء، فإن جوهر الموضوع كله عمليا كان تدخل الدولة فى الاقتصاد والمجتمع. أصبحت البيروقراطية الحكومية هى التى تقرر احتياجات الناس، وتقوم بالتخطيط للوفاء بهذه الاحتياجات. وقبل نهاية القرن العشرين كان المعسكر الاشتراكى قد انهار، ولم يعد للاشتراكية كثير من الأنصار، وأصبحت العولمة هى العصر ومن يدخلها يكون من باب الحريات السياسية والاقتصادية، أى الديمقراطية والرأسمالية معا وفى آن واحد.
العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين شهد اتجاها جديدا ليس إلى الاشتراكية ولا الرأسمالية، وإنما إلى «القومية» أى تلك الدولة التى تكون فى نظر زعمائها «أولا» فلا يهمها مصالح الدول الأخرى، أو عما إذا كان كوكب الأرض مهددا بالاحتباس الحرارى. كانت «العولمة» قد بدأت منافسات قاسية بين الدول، وحينما تكون المنافسة بين مجتمعات غير متكافئة لا فى الثروة ولا التعليم ولا الموهبة، فإن أفضل الأمور هو إغلاق الباب الذى يأتى منه الريح. كانت البداية مع الخروج «البريطانى- البريكست» من الاتحاد الأوروبى، وبالتوازى معها كان انتخاب دونالد ترامب فى الولايات المتحدة وأتى معه الانسحاب من معاهدة باريس لمعالجة الاحتباس الحرارى، واتفاقية المشاركة الباسفيكية، وتغيير اتفاقية «النافتا» - منطقة شمال أمريكا للتجارة الحرة - إلى اتفاقية أقل حرية فى التعاملات بين الولايات المتحدة، وكندا والمكسيك. فى أوروبا تراجعت المجر أولا ثم بولندا، كلاهما تراجع من قبل عن الاشتراكية، ومن بعدها عن العولمة والمنافسة، ولحقت بهما أحزاب سياسية فى هولندا وفرنسا وألمانيا والدنمارك، وحتى السويد التى كانت لديها اشتراكية ديمقراطية من نوع خاص باتت هى الأخرى تعرف حزبا لديه ٢٠٪ من مقاعد البرلمان ينتمى إلى هذه الطائفة من الجماعة «القومية».
البرازيل أشهرت إيمانها بالمذهب الجديد بعد انتخاب «جائير بولسونارو» رئيسا للدولة، وكان دونالد ترامب أول المهنئين بالفوز. فالرجل صمم حملته الدعائية على الطريقة «الترامبية» التى تعلن إغلاق الأبواب من أجل حماية الصناعة الوطنية، والخروج من اتفاقيات العولمة للانكفاء اللذيذ على الذات دون منافسة ولا مكابرة، وفى مقدمتها اتفاقية باريس لمكافحة الاحتباس الحرارى. ولكى تكتمل الصورة أعلن الرجل بمجرد تحيته للعلم الأمريكى الذى عرض على شاشة التليفزيون فى حفل نجاحه، وتوجيه التحية لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أنه سوف ينقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس، وينسحب من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. جاء الانتخاب بعد مسيرة طويلة للبرازيل ربما بدأت منذ استقلالها عن التاج البرتغالى عام ١٨٢٢، ثم تحولها إلى جمهورية ١٨٩٨ أخذت الكثير من التقاليد الأمريكية فى الفيدرالية (٢٦ ولاية) والحكم الرئاسى الذى سرعان ما تحول إلى حكومات ديكتاتورية حتى جاء منتصف الثمانينيات من القرن الماضى عندما دخلت البرازيل إلى الموجة الديمقراطية الرأسمالية التى دفعت البرازيل إلى مكانة متقدمة بين دول العالم فصارت الدولة الثامنة فى الترتيب العالمى من حيث الناتج المحلى الإجمالى، وعضوا بارزا من مجموعة العشرين فى العالم، وعضوا مهما فى مجموعة «بريكس» BRICS أى البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا والتى يفترض فيها أنها تمثل تحديا للنظام الاقتصادى العالمى الذى تتزعمه الولايات المتحدة والدول الأعضاء فى حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبى أو الغرب عامة.
البرازيل فى الأصل دولة غنية، فمساحتها تقترب من مساحة الولايات المتحدة، وعدد سكانها ٢١٠ ملايين نسمة، أو ٤٠٪ من سكان أمريكا اللاتينية و٤٧٪ من ناتجها المحلى الإجمالى. وخلال الثمانينيات والتسعينيات وحتى النصف الثانى من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فإنها حققت معدلات نمو عالية، واكبها بناء قاعدة صناعية كبيرة. النكسة البرازيلية بدأت عندما لفحت الاشتراكية التجربة البرازيلية تحت شعار «العدالة الاجتماعية» وتوزيع الدخل التى تزعمها «هوجو شافيز» و«ماديرو» من بعده فى فينزويلا، ولولا دا سيلفا وخليفته ديلما روسوفا فى البرازيل، حيث انتكست التجربة ودخلت الدولة فى دورة واسعة من الفساد والتباطؤ فى النمو الاقتصادى حتى هبط إلى ١.٢٪ وانهيار فى العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل القومى وأكثر من ذلك إفساد الزراعة ونهب مناطق الغابات الطبيعية. شكل الاشتراكيون فى حزب العمال البرازيلى الحاكم نكسة كبيرة للمسيرة البرازيلية التى كانت قد باتت من النماذج العالمية التى تقف جنبا إلى جنب مع التجارب الصينية والهندية والكورية الجنوبية. إلى درجة كبيرة كان انتخاب «بولسونارو» رد فعل لتجربة «داسيلفا» وخليفته بقدر ما كان ترامب رد فعل لتجربة أوباما مع الاختلافات المتصورة فى مثل هذه الحالات وفى مقدمتها أن ترامب بمستطاعه مهاجمة تجربة أوباما ولكنهما معا يظلان جزءا من التجربة الديمقراطية الأمريكية، «بولسونارو» لم يمدح فقط المرحلة الديكتاتورية البرازيلية السابقة، وإنما قدم الإشارات التى لا تمنع من العودة إليها تحت شعارات «شعبوية» عن الفساد الذائع، والاستغلال الذى تعرضت له البرازيل من الصين التى «لم تكن تشترى فى البرازيل، وإنما اشترت البرازيل نفسها».
انتخاب «بولسونارو» ربما لا يخص البرازيل فقط وإنما يخص مرحلة من التطور العالمى المضاد للعولمة فى عمومها وما ارتبط بها من ليبرالية وديمقراطية؛ والحقيقة أنه فيما عدا الولايات المتحدة فإن الرجل لا يبدو حتى الآن أنه على استعداد لمد جسور التعاون لأكثر مما هو حادث فعلا فى إطار «الميركسور» أو المنظمة الإقليمية لدول أمريكا الجنوبية. ولكن المؤكد حتى الآن أن الرجل ليس مهتما بمنظمة «البريكس»، وأنه على العكس يبحث عن رابطة مع حلف الأطلنطى أو الولايات المتحدة وكفى. المدهش أنه وصل إلى الحكم باحتفاء شعبى كبير رغم شعاراته الصادمة ودعايته الفجة. هى ظاهرة يبدو أن العالم لا بد أن يخوضها حتى لو ظهر فى النهاية أنها تعاكس التاريخ والتطور فى قوى الإنتاج والسوق العالمية.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع