بقلم : عبد المنعم سعيد
فى بعض تقاليد الزواج المسيحى التى حضرتها فى الولايات المتحدة؛ أو شاهدها كثيرون فى أفلام غربية، فإن القس الذى يعقد الزواج بعد أن يقدم العروسين ويسألهما السؤال والقبول بارتباط الحياة بحلوها ومرها، يسأل الحضور عما إذا كان لدى أى منهم أمر يثيره أو اعتراض يطرحه على هذا الزواج المقدس، أو إذا لم يفعل فليصمت إلى الأبد.
شىء من هذا ينطبق على العملية الديمقراطية فى كل بلدان العالم حيث يكون «التصويت» هو آخر مراحل العملية السياسية التى يقول فيها الفرد «المواطن» كلمته من خلال صناديق الاقتراع والتى تختار وترجح، وبشكل أو بآخر تبدى الرأى فى جدارة البرامج الانتخابية للمرشحين، فإذا ما كان فائزا فإنه يعطى الفرصة الكاملة لكى ينجح.
وفى الأسبوع الماضى سألنى الدكتور خالد أبوبكر فى حلقته الأولى من برنامجه التليفزيونى الجديد على قناة الحياة عن اسم المرشح الرئاسى الذى سوف أنتخبه، وكانت إجابتى أن صوتى سوف يكون فى الصندوق، ولم يكن ذلك تجنبا للإجابة، وإنما حفاظا على موقف كاتب عليه أن يظل محايدا فى تحليله ومعلوماته للرأى العام حتى اللحظات الأخيرة.
أما وقد اقتربت لحظة الصمت الانتخابى التى بعدها يتوقف المرشحون عن الدعاية الانتخابية تاركين للرأى العام أن يقرر دون ضجيج، وطبقا للتقاليد الديمقراطية التى عندها يجب على الكتاب والمثقفين اتخاذ المواقف، فإن اللحظة حانت لإبداء الرأى والذى أظنه لن يفوت على القارئ، وهو أن صوتى سوف يذهب إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى..
والحقيقة أن أسباب ذلك لن تغيب عن القارئ الكريم، وربما كان أكثر من لخصها بحكمة بالغة كان الأستاذ الكبير صلاح منتصر فى عموده اليومى بصحيفة الأهرام الغراء بما كان للرئيس من مواقف لم يسبقه إليها أحد تتعلق بالوحدة الوطنية، والمساواة بين الرجل والمرأة، وانتشار التنمية بين ربوع الوطن دون تمييز ما بين نهر وبحر أو سهل وبادية؛ أو مواقف أخرى سار فيها على سنن الجمهورية فى عصورها المختلفة من الحرب ضد الإرهاب ومحاربة التطرف الدينى والحفاظ على المصالح الإقليمية والدولية للوطن. تفاصيل ذلك كلها سبقت مناقشتها وتحليلها فى هذا المقام وغيره، وهى فى مجموعها تكون خبرة هائلة فى الإنجاز السريع لمشروعات كبرى تجعل من الرؤية التى تقودها «رؤية مصر ٢٠٣٠» قابلة للتحقق على الأرض. وخبرة غير قليلة فى توازنات السياسة الخارجية، وما بين ما يتحقق فى الداخل والخارج. الجهد كبير ومتعدد الأوجه، وإذا كانت البداية المنطقية فيه كانت من باب البنية الأساسية والحماية الاجتماعية، فإن الاختراق للتخلف جاء أولا عندما بات ممكنا اتخاذ القرارات الصعبة التى تجعل مصر دولة «طبيعية» يجرى عليها فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى ما يجرى على الأمم الأخرى؛ وثانيا عندما بات التراكم ملائما فتحت الأبواب للتعامل مع أعقد أمور التعليم والصحة، من خلال برامج حديثة وتتماشى مع العصر، وتأمين صحى يضع البلاد على أبواب حل معضلة حارت فيها أمم كثيرة.
الخلاصة أنه فى ميدان الخبرة والطموح والإنجاز فإن الرئيس السيسى، ودون إخلال بالاحترام الواجب للسيد موسى مصطفى موسى، يتفوق على منافسه الذى يبذل جهدا مرموقا ومحترما فى حملته الانتخابية. وربما لا توجد مفاجأة فى ذلك، ولكن جلال لحظة التصويت يحتاج نوعا من التقييم العادل بحكم ما فيها من تاريخ احتوى على الكثير من الدروس، وما فيها من نظرة على المستقبل القادم. فاللحظة التى يكون فيها القول الفصل فى تحديد المنصب الرفيع لرئاسة الجمهورية تفرض على النظام السياسى أن يكون قادرا على خلق منافسة حقيقية بين مشروعات سياسية فإن ذلك للأسف لم يحدث فى الانتخابات الراهنة. وبشكل فإن الباقة من المرشحين الذين أعلنوا عن نيتهم للترشح لم تكن لدى بعضهم القدرة إما على مراعاة الإجراءات الواجبة، وبعضهم الآخر كان عاقدا النية على الانسحاب عند أول منعطف سياسى، وبعضهم الثالث كان يشترط ضمانات للفوز فى منافسة لا ينافس فيها. كان العظم طريا ولينا، والأعصاب خائرة، ولكن التردد كان كافيا فى كل الأحوال لكى يصيب البلاد بجرح إعلامى قوامه إما أن يقوم الرئيس السيسى بخلق منافسين له إذا فازوا تكون الانتخابات نزيهة، وإذا خسروا تكون جائرة. مثل ذلك لا يفرض فى بلاد أخرى، ومع ذلك فإن الدرس الذى نتعلمه هو أن المجتمع المدنى المصرى قد انتزع منه عهد الثورات الكثير من الدسم والحيوية؛ أو وهو ما سوف تثبته الأيام والانتخابات القادمة، أنه لايزال عائشا فى لحظة وطنية كثيفة التأثير جعلت كافة الأحزاب التى لها ممثلون فى مجلس النواب والنقابات والاتحادات تتجه نحو تأييد الرئيس. مثل هذه الحالة مرت بها أمم قبلنا، وبعد الثورة الأمريكية التف الأمريكيون حول الرئيس جورج واشنطن وانتخبوه مرتين بالإجماع؛ وهو ما رده بوضع التقليد التاريخى، حتى وهو غير مذكور فى الدستور، بألا يبقى فى السلطة لأكثر من فترتين، وصار ذلك تقليدا حتى كسره الرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية ففاز أربع مرات، قرر الأمريكيون بعدها أن يكون هناك نص دستورى يفرض وإلى الأبد فترتين للرئاسة. المثال ذاته تكرر فى الفترات الاستثنائية للاستقلال مع نهرو فى الهند، ومانديلا مع انتهاء الحكم العنصرى فى جنوب أفريقيا.
هل يمكن وضع السيسى فى مقام هؤلاء القادة التاريخيين المؤسسين، والإجابة نعم حتى ولو كانت مصر قد استقلت قبلها، وحررت أراضيها من قبل، ولكن الخلاص من التجربة الإخوانية كان محنة كبرى لمصر لم يكن لها أن تعبرها لولا دور القوات المسلحة وقيادتها. كانت مصر تمر بذات اللحظة التى مرت بها ألمانيا عام ١٩٣٣ وإيران ١٩٧٩ عندما غرست الفاشية أنيابها فى عنق شعب وأمة عريقة، وكان على الأولى أن تمر بفترة الحرب العالمية الثانية كلها بمآسيها وتقسيمها للدولة؛ وعلى الثانية أن تعيش فى سجن كبير يملك مفاتيحه المرشد العام. القادة التاريخيون لديهم واجبات عظمى أولها أن تكون لديهم القدرة لخلق قيادات تاريخية أخرى، ومنحها العلم والتجربة والقدرة على المنافسة والفوز فى السلطة أو خارجها. جورج واشنطن خلفه جون آدامز وتوماس جفرسون وجيمس ماديسون وكان ممكنا لإلكسندر هاملتون أن يكون رئيسا لولا أنه قتل فى مبارزة غير ضرورية. ومانديلا خلق نظاما سياسيا قادران ليس فقط على خلق القادة الجدد، وإنما أيضا أن يصحح أخطاءه عندما تحدث. وثانيا أن يجعل المسار التاريخى الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الداخلى والخارجى عابرا للزمن، ورافضا للتطرف، ومنحازا للتقدم. الرئيس السيسى لديه كل ذلك، وربما كان اهتمامه المنظم بالشباب دليلا على الجانب الأول؛ وسجله خلال الفترة الأولى لرئاسته دليلا على الجانب الثانى فى فترته الرئاسية الثانية.
نقلاً عن المصري اليوم