إذا كان عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى يمكن أن يوصف بصفات، فهى أنه الزمن الذى أمكن فيه التعامل مع المعضلات الكبرى للحياة السياسية والاقتصادية والفكرية المصرية.
الأمثلة كثيرة من أول المصارحة الكاملة للجماهير بآلام الطريق الذى نسير فيه والبعد عن تملقها بوعود لا يمكن تحقيقها، أو توريطها فى سياسات خارجية منهكة، أو الطرق على قضية الوحدة الوطنية وضرورة تجديد الخطاب الدينى.
هو الذى أخذ بنا على الطريق من النهر إلى البحر، وبدأ سياسات ذات مصداقية فى تحديد سعر العملة، وحتى القطاع العام بات موضوعًا على مائدة البحث الجدى. ولكن واحدة من المعضلات استعصت على الاختراق والمواجهة وهى «المعضلة الاتصالية»، ولا أقول الإعلامية؛ لأن هذه سوف تختلط مع الدعاية والإعلان وفى عرف العسكريين «الحرب النفسية».
الاتصال من أهم الأبعاد السياسية التى ترتبط بكفاءة العمل والإنجاز الذى لا يكون حاضرا إلا عندما يصل إلى الناس، وفى حالتنا ليس فقط عند المصريين أو العرب وإنما دول العالم.
واقعة الحدث الأخير فى قناة CBS الأمريكية كان فيها الكثير من التربص والتصيد من جانب القناة، وهناك ما هو أكثر، قد ذكره زملاء فى مقالات وأعمدة متعددة. ولكن القضية لا تنتفى بما نظنه فى نيات الطرف الآخر فى الواقعة، أو فى الوقائع الأخرى المماثلة، سواء كانت تخص الرئيس أو مصر كلها، وإنما التساؤل هو عما إذا كنا قد فعلنا ما يكفى لكى نواجه حالة دائمة من الاتهام بأمور يوجد لدينا بالفعل الرواية الصحيحة لها، وبالصوت والصورة أم لا.
فى ١/٦/ ٢٠١٦، وفى معرض التعليق على رد الفعل العالمى على حادث طائرة مصر للطيران المتوجهة من باريس إلى القاهرة، نشرت مقالًا فى صحيفة الأهرام الغراء بعنوان «الخطايا الأصلية فى السمعة المصرية»، ذكرت فيها ثلاث خطايا:
الخطيئة الأصلية الأولى عادت إلى نظرة العالم لما حدث فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وما وضع عليه من عنوان «الانقلاب»، وأفضل ما نحصل عليه هو إضافة أنه حدث بعد بعض من التحركات الشعبية، ولكن بعد القول إن التغيير جرى لأول رئيس مصرى مدنى منتخب! هذه التركيبة من التعبيرات لها صدى غير صديق لمصر لأنها لا تتعرض لما فعله الإخوان فى الحكم، ولا لإعلان مرسى الدستورى الديكتاتورى، ولا لحصار المحكمة الدستورية العليا، ولا لعام من التراجع فى كل المجالات، ولا للصلات بين جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية المختلفة، ولا للتوقيعات التى جمعتها «تمرد» على ضرورة الانتخابات المبكرة، ولا لشكل الجبهة الوطنية التى تكونت لتضع خريطة الطريق فى ٣ يوليو، ولا التفويض الذى حصل عليه الفريق السيسى فى ٢٦ يوليو، ولا مهلة الأسبوع التى منحتها القوات المسلحة المصرية للقوى المدنية لكى تصل إلى حل، ومن بعدها مهلة ٤٨ ساعة لذات الهدف.
ببساطة فإن القصة المصرية عن ثورة يونيو وملابساتها ظلت غامضة بالنسبة للعالم، ونجح الإخوان وغيرهم فى وضع لافتة سلبية للحدث كله.
الخطيئة الإعلامية الثانية ليست منبتة الصلة عن الخطيئة الإعلامية الأصلية، لأنها اتصلت بما جرى لعمليات العنف التى انتهت بما عرف بأحداث «رابعة» حيث سادت فى البداية القصة الإخوانية، ثم عززتها بعد ذلك قصة المنظمة الأمريكية «هيومان رايتس ووتش» بحيث صارت وقائعها، وأرقامها هى المعتمدة فى الإعلام الدولى.
ولم يكن فيها لا أن الإخوان هم الذين بدأوا بعمليات التجمهر فى الميادين المصرية اعتبارا من ٢١ يونيو أى قبل يومين من البيان الأول للقوات المسلحة، وأن الاعتصام فى رابعة استمر ٥٣ يومًا أصيبت فيه العاصمة بالشلل؛ ولا أن الإخوان قالوا بصراحة وبوضوح إنهم سيلجأون للعنف والقتل والحرق، وأن ما قالوا به طبقوه حرفيا، ولمن يريد أن يعرف تفاصيل أكثر غابت عن الرواية العالمية سوف يجدها فى تقرير الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض الذى لأسباب غير مفهومة لم يترجم، ولم يعرض عالميا.
الخطيئة الإعلامية الثالثة أن بعضا من السمعة لم يكن فقط مصدره الخارج، وإنما أسهم فيه الداخل بقرارات وإجراءات تحفظ عليها فيما يتعلق بحقوق الإنسان المجلس المصرى المختص بالقضية. وأسهمت فيها أيضا شريحة غير قليلة من الشباب الإلكترونى الذى استخدم أدوات العصر فى التواصل مع العالم خالطًا بين الحقيقى والزائف، ووجد إخوان الخارج مع من ناصرهم من الليبراليين فرصة لصب الزيت على النار فى قصة تعطيهم مبررًا للتواجد، سواء كان ذلك فى تركيا أو الولايات المتحدة. لاحظ أنه فى كل هذه الخطايا الأصلية فإن قصة البناء المصرية غير واردة، وعندما جاء برنامج «٦٠ دقيقة الأمريكى» «أندرو ميلر»، الذى كان يعمل فى مكتب مصر بمجلس الأمن القومى الأمريكى، للشهادة فإنه تحدث عن الانهيار الاقتصادى المصرى، وكأنه لم يسمع بتقارير صندوق النقد الدولى ولا البنك الدولى ولا الشهادات الدورية للمؤسسات المالية فى نيويورك.
ولاحظ أيضا أنه لم يكن فى مصر قصور فى الأجهزة الاتصالية والإعلامية المصرية، ولكن شهادتها وروايتها إما أنها استغرقت فى النفاق أو فى عصبية رد الفعل.
لم يصدر «كتاب أبيض» باللغتين العربية والإنجليزية عن واقعة «رابعة» وما جرى فيها، علما بأنه لدينا تقارير الوفاة، ليس فقط ممن شاركوا فى الاعتصام وإنما من شهداء الشرطة الذين بلغو ٤٣ شهيدًا، ولدينا ٥٣ يومًا مسجلة بالصوت والصورة، وفيها من أحاديث الحريق والدم ما يكفى.
ولم يصدر «كتاب أبيض» باللغتين العربية والإنجليزية عن القانون المصرى وموقفه من عمليات الاحتجاز للأفراد، ودرجات التحقيق والتقاضى والاستئناف، والفارق ما بين الرأى والتحريض، ونتائج الأحكام التى تصدر بما فيها أنه رغم كل الادعاءات عن أحكام الإعدام «الجماعية»، فإنه حتى الآن لم توجد حالة إعدام واحدة للإخوان لأنه ببساطة هناك الكثير من إجراءات التقاضى والمراجعة التى تعدى زمنها الآن أكثر من أربع سنوات. ولا جرت عملية مراجعة لأجهزتنا وأدواتنا الإعلامية ومدى كفاءتها فى عرض القصة المصرية التى ليس مجالها فقط الصراع مع الإخوان والإرهاب، وإنما مع التخلف والفقر بالبناء والتعمير. ولا راجعنا بعض الهدايا المجانية التى تعطى للخصوم الكثير من الفرص، بينما لا تعود علينا بالضرورة بفائدة ملموسة.
المعضلة الاتصالية واجبة الاختراق لأنها مهمة بالنسبة للسمعة المصرية، والاستثمارات الأجنبية فى مصر، والاطمئنان الداخلى فى البلاد، وهى مثلها مثل كل المعضلات التى واجهناها من قبل.. بدايتها العلم والمعرفة، ونهايتها الكفاءة فى العمل والتوقيت.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع