بقلم: عبد المنعم سعيد
الخطة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط تدفع إلى البحث في الدروس التي يقدمها الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي تجاوز 120 عاماً منذ بدأ هيرتزل يفكر في «الدولة اليهودية». فمحاولة حل الصراع ليست الأولى من نوعها، وأميركياً فإنه منذ الحرب العالمية الثانية لم يتوقف رئيس أميركي عن الحلم بأن يكون الرجل الذي يقيم السلام في أرض المسيح؛ وترمب ليس استثناء من هذا الحلم. ترومان تصور أنه سوف يفعلها من خلال «قرار التقسيم» من الأمم المتحدة عام 1947؛ وآيزنهاور من خلال تقاسم مياه الأنهار في الشام عام 1954؛ وكيندي حاول أن يكون ذلك بحوار مع عبد الناصر عام 1962. وإن كان جونسون مهموماً بحرب فيتنام فإنه اختصر الطريق وقدم الدعم لإسرائيل، أما نيكسون فقد بدأ بمبادرة روجرز عام 1970، وانتهي باتفاقيتي فصل القوات بين إسرائيل ومصر وسوريا عام 1974؛ وكارتر بدأ بإعلان كامب ديفيد، وانتهى بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، أما ريغان فقد كانت له مبادرة باسمه عام 1983، وبوش الأب عقد مؤتمر مدريد عام 1991، وكلينتون عقد مؤتمر كامب ديفيد الفلسطيني الإسرائيلي وقدم مجموعة تفاهمات عام 2000، وبوش الابن قام بمبادرة في قاعدة «إنديانابوليس» البحرية عام 2008، وأوباما حاول الوساطة، لكنه عجز عن التوصل إلى اتفاق بسبب المستوطنات. ترمب بدأ بفرض الأمر الواقع في القدس ومع اللاجئين، وجعل من الأمر «صفقة» فيها بعض الإغراءات الاقتصادية، وانتهي بما سماه «صفقة القرن». هذه المسيرة الطويلة من المحاولات الأميركية تداخلت مع العلاقات الأميركية الإسرائيلية الخاصة، ومع العلاقات الأميركية العربية المرتبطة بالنفط، وتركيبات الحرب الباردة العالمية، والانفراد الأميركي بالعالم.
الدرس الأول الذي نتعلمه من مسيرة الصراع الطويلة هو أن إنشاء الحقائق على أرض الواقع أثبت دائماً أنه أقوى من الحجج القانونية أو الأخلاقية؛ وهذا يساعد على تحديد الفرق الأساسي بين النخب السياسية اليهودية والفلسطينية في التعامل مع صراع تاريخي. لا يكمن الاختلاف فقط في حقيقة أن اليهود تمكنوا من الاستيطان والاستقرار على أرض لم تكن لهم، والتي كان يعيش عليها الفلسطينيون بالفعل، ولكن أيضاً في قدرتهم على بناء مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية. في تلك الأيام، واجه اليهود عقبات كبيرة أمام تحقيق المشروع الصهيوني، بما في ذلك صعود النازية والحركات الفاشية في أوروبا، والتي كانت معادية للسامية بشدة. كانت تلك الأوقات أيضاً التي كان فيها اليهود غير مرحب بهم لاجئين أو مقيمين في كثير من بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة ذاتها. على النقيض من ذلك، فإن الفلسطينيين كانت لهم صلاتهم العربية التي كانت فيها اتصالات ثقافية وحضارية ممتدة، وكانوا يعيشون في بلدهم وعلى أرضهم، لم يفعلوا كثيراً لبناء نواة الدولة الفلسطينية. والحقيقة أنه كانت هناك محاولات بالطبع، لكن الفرق في الحجم كان كبيراً. سواء أكان ذلك بسبب الاحتلال البريطاني لفلسطين، أو التخلف العميق في العرب والفلسطينيين، أو السيطرة الاستعمارية على الجوار العربي، أو عوامل أخرى، كانت النتيجة أنه بحلول وقت قرار التقسيم، كان اليهود مستعدين لإدارة الدولة والقتال من أجل الدولة، سواء كان ذلك ببناء الجامعات أو بناء الجيوش والقوة العسكرية الحديثة. الفلسطينيون من جانبهم، كانوا يعتمدون على الدول العربية، التي عانت أيضاً من الاحتلال الاستعماري ومجموعة من المعضلات التنموية الخاصة بهم.
الدرس الثاني هو أن القوة العسكرية، مهما كانت قوية، لها حدود. لا يمكنها، في حد ذاتها، تحقيق أهداف أي من أطراف النزاع العربي الإسرائيلي. فشل العرب في عامي 1948 و1967، لكن الإسرائيليين فشلوا في عامي 1956 و1973. علاوة على ذلك، فشل الإسرائيليون في قمع الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية بالقوة التي هدأت فقط بسبب الجهود السياسية والدبلوماسية. أثبتت الانتصارات العسكرية في بعض الأحيان أنها تأتي بنتائج عكسية. في عام 1982 حققت إسرائيل واحداً من أعظم انتصاراتها عندما غزت لبنان، واحتلت عاصمة عربية، بيروت. كانت نتيجة الحرب ميلاد أكثر تهديدات إسرائيل عنفواناً التي يمثلها «حزب الله» الذي جذب النفوذ الإيراني حتى وصل إلى البحر الأبيض المتوسط مهدداً حدوداً عربية، ومعها حدود إسرائيل. وبصرف النظر عن انتصاراتها العسكرية، لم تتمكن إسرائيل من إخراج الشعب الفلسطيني من فلسطين. ويعيش الآن نحو 12 مليون نسمة في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. نصفهم من اليهود الإسرائيليين، والنصف الآخر من الفلسطينيين. يواجه بعضهم البعض في جميع أنحاء فلسطين وفي بعض الأحيان داخل مساحة ضيقة مثل الحرم الشريف الذي يحتوي على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى. هذه الحقائق الديموغرافية، بالإضافة إلى الأماكن المقدسة التي تجسد التاريخ والعواطف الدينية، هي أيضاً حقائق رئيسية على الأرض. على الرغم من الانتصارات المستمرة لإسرائيل من عام 1948 إلى عام 1967، والميزة العسكرية التي كانت تتمتع بها دائماً على الجانب العربي، فقد عانت من الافتقار إلى الشرعية، ليس فقط في العالم العربي، بل معه العالم الإسلامي وعدد من دول العالم الأخرى. مع صراع متعدد الطبقات (على مستوى الدولة، صراعات التحرير الوطني، التمرد الشعبي، الإرهاب الثوري، الحرب التقليدية، حرب العصابات) لم يتمكن أي طرف من الفوز بانتصار حاسم على الآخر.
الدرس الثالث هو أن الصراع العربي الإسرائيلي له قوة دافعة وجوهرية مكنته من الاستمرار حتى مع تغير العالم كله وانتقاله من نظام دولي إلى آخر. بدأ الصراع في الحرب العالمية الأولى، ونجا من الحرب العالمية الثانية مع تداعياته على اليهود والعرب والفلسطينيين، واستمر خلال الحرب الباردة بتقلباتها، وانهيار الاتحاد السوفياتي ونتائجه، والاضطرابات التي أعقبت الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك. على طول الطريق كان على القادة والمقاتلين التكيف مع الحقائق المتغيرة ومحاولة الاستفادة من التطورات الجديدة، وكان عبث القوة العسكرية واستمرار الصراع يعطينا الدرس الرابع؛ التحولات الرئيسية في سياق الصراع لم تحدث إلا عندما كان هناك حوار مباشر بين العرب واليهود، وبين الدول العربية وإسرائيل. يمكن العثور على أمثلة في محادثات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أنهت الاحتلال الإسرائيلي لسيناء عام 1982، والتي أعقبتها اتفاقية سلام أردنية إسرائيلية عام 1994. ومن بين هذين المعلمين كانت اتفاقيات أوسلو التي قادت لإنشاء أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية، وخلق واقع فلسطيني غير مسبوق تاريخياً على أرض فلسطين.
الدرس الخامس والأخير هو أن إطالة أمد الصراع العربي الإسرائيلي قد قلل من قدرة الدول العربية على مواجهة التحديات التنموية، وكذلك مواجهة المخاطر الاستراتيجية من داخل المنطقة أو من خارجها. ومع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فإن خبرة الصراع وتشريح الشرق الأوسط تشير إلى أي مدى يمكن أن تؤدي التناقضات العربية الإسرائيلية إلى ظهور تحديات ملحوظة لكلا الجانبين أخذت خلال العقد السابق أشكالاً من الفوضى والإرهاب.