بقلم : عبد المنعم سعيد
حتى وقت كتابة هذا المقال لم يكن اجتماع القدس المقرر في 24 يونيو (حزيران) الحالي قد حدث بعد، ولا تسربت أيٌّ من أسراره، وسواء تم اللقاء -وهو المرجح - أم لم يتم فإن ما أُعلن كان سابقة غير مسبوقة، تلاها الكثير من الأعمال التحضيرية بين ممثلين للدول الثلاث التي اتَّفقَت على لقاء يُعقد في القدس، وليس أي مكان آخر، بين المسؤولين عن الأمن القومي في الولايات المتحدة، وجمهورية روسيا الاتحادية، ودولة إسرائيل: جون بولتون، ونيكولاي بيتروشيف، ومائير بن شابات. مكان الاجتماع فيه رسالة أنه يخص الشرق الأوسط، وكونه يُعقد في مدينة متنازَع على شرعية إعلانها عاصمة لإسرائيل يعطي للمشاركين فيه أن قضية القدس وربما القضية الفلسطينية كلها لم تعد أكثر من قضية ثانوية في نظر المشاركين وإلا لكان المكان في واحدة من الدولتين العظميين (الولايات المتحدة وروسيا) أو في مدينة أوروبية محايدة (جنيف على سبيل المثال)، أو غير محايدة (روما تقدم مثالاً آخر). الغرض من الاجتماع الذي لم تُذكر فيه إلا نقطة وحيدة سوف يجري البحث فيها على جدول الأعمال: سوريا. لاحظْ هنا أن الاجتماع يُعقد بينما هناك أزمة دولية وإقليمية مستعرة بين إيران والولايات المتحدة من جانب؛ وإيران ودول الخليج العربية من جانب آخر؛ ولاحظْ أيضاً أن الاجتماع يُعقد بينما الحرب السورية الداخلية لا تزال مستعرة في إقليم إدلب. في الوقت نفسه فإن الاجتماع يُعقد بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها انتصرت في الحرب على الإرهاب بعد سقوط «دولة الخلافة» ومن ثم فإنها تعلن عن عزمها على الانسحاب من المنطقة. وإذا كانت روسيا قد نجحت من قبل في ترتيب أوضاع العمليات العسكرية بين إيران وإسرائيل بحيث يبعد الطرفان بعضهما عن بعض قرابة 100 كيلومتر؛ كما نجحت في تنسيق العمليات الجوية بينها وبين الولايات المتحدة بحيث لا تكون هناك أخطاء مقصودة أو غير مقصودة، فلماذا يكون الاجتماع إذن؟
للوهلة الأولى من التفكير في اللقاء وكونه «أمنياً» بصفة أساسية لا يجعله غير تنسيقي بين أعمال عسكرية لا تزال جارية وإلا كان الحضور ممثلين للجيوش لا لأجهزة الأمن القومي، وغير معلوماتي حول ما يحدث في المنطقة وإلا كان المشاركون قادة أجهزة المخابرات. الوهلة الثانية من التفكير قادت بعيداً، وما دام الممثلون في الاجتماع هم المستشارين للقادة الكبار في بلادهم، فإن الأمر -وهكذا يسير التعليق - لا بد أن يكون له طبيعة استراتيجية تقترب مما حدث في اتفاقية «سايكس بيكو» الشهيرة، فيكون الأمر كله توافقاً حول مصير سوريا إن لم يكن بالتقسيم فهو بتوزيع مناطق النفوذ. وإذا كان التقسيم فيما مضى بين بريطانيا وفرنسا فإنه هذه المرة هو بين موسكو وواشنطن، وإذا كان للولايات المتحدة القول الفصل في بغداد فإن الاتحاد الروسي يكون مكانه في دمشق. بالطبع فإنه فيما ذُكر أن ما جاء من توافق قام على التسليم باستمرار بشار الأسد على كرسي السلطة في دمشق، ولكن السؤال هو: بأي درجة من الاستقلال؟ وهل يمكن لبشار الأسد أن يبتعد عن رعاته من الملالي في طهران، و«حزب الله» في بيروت؟ وإذا كانت موسكو قد رعت من قبل تركيب العلاقات والانتشار العسكري بين إسرائيل وإيران، فما الحاجة إلى وجود الولايات المتحدة التي يمثلها بولتون وهو المشهود له بأنه من المطالبين بضرب إيران، فهل يتدخل في ترتيباتٍ وضعها بوتين وليس دونالد ترمب؟!
كما نرى، فإن القصة كلها عصيّة على التصديق، ولكنها واقعة، وبعض المحللين يرون أن مجرد انعقادها هو في حد ذاته واحدة من عجائب العلاقات الدولية لأنه يأتي في وقت كانت فيه بكين قد اصطفت مع موسكو في تحالف قدم له شي جينبينغ بهدية ذكر وأنثى من حيوانات الباندا النادرة لعيونها البريئة وسماتها الطفولية. وكانت بكين وموسكو عاصمتين تقع عليهما العقوبات الأميركية، وروسيا متهمة سياسياً في أوكرانيا والقرم، وفي الناحيتين كانت اللُّحمة في العداء للولايات المتحدة التي لا ينبغي لها أن تفرِّق بين العاصمتين كما حدث قبل عقود عندما ذهب ريتشارد نيكسون إلى بكين ويقابل ماو تسي تونغ لكي يأخذه بعيداً عن الرفاق الشيوعيين في موسكو؛ أيامها قال هنري كيسنجر إنه عندما دخل ماو الحجرة فإنه أحس كما لو كان مركز الكرة الأرضية قد تحرك أينما تحرك. الآن فإن الدنيا لم تعد هي الدنيا، ولا أصبح الزمن هو الزمن، وبات لقاء القدس ليس بالضرورة فرقة في ناحية وتحالفاً في ناحية أخرى؛ فالصين ليس لها كثير فيما يجري في الشرق الأوسط، فلا هي أرسلت جنداً، ولا أطلقت رصاصة، وما لها من تجارة فإنه يسير على ما يرام مع كل الأطراف من إسرائيليين وعرب وفرس.
لقاء القدس هو الأول من نوعه، وقد يكون مجرد لقاء على اتفاق لتنظيم العلاقات قبل نشوب القارعة، أو أنه في الأول والآخر جهد إسرائيلي سوف يقلل، بما يخلقه من قنوات اتصال، من تبعات ضرب إسرائيل للقدرات النووية الإيرانية التي بدأت تلوح مرة أخرى بعد غياب دام قدر ما دام الاتفاق النووي بين إيران والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (5+1) على أن تكبح سلاحها النووي. التصعيد الجاري حالياً بين إيران والولايات المتحدة بأدوات سياسية وعسكرية جعل عودة إيران إلى إشهار قدراتها النووية مرة أخرى هو السلاح الذي تلوّح به أمام أميركا من ناحية، والحلفاء الغربيين في ناحية أخرى. فمن وجهة نظر إيران، إذا كانت الولايات المتحدة تريد العودة إلى نقطة الصفر في المفاوضات، فإنه لا بد من العودة إلى النقطة التي توقف عندها البناء النووي الإيراني ومعاودة البناء فوقه. بالنسبة إلى إسرائيل فإن صياغتها لأمنها القومي يجعل استئناف البرنامج النووي الإيراني خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه؛ وإسرائيل ليس لديها الكثير الذي تفعله في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وفي الحقيقة فإن لديها خططاً قديمة لضرب الحلقات المفصلية للبرنامج يبدو أنه قد تحين الفرصة لكي يخرج من مكامنه. ولكنّ ذلك كله لا يجعل «لقاء القدس» دائراً حول سوريا وإنما هو دائر حول إيران، فهل الحقيقة في اللقاء هي أن الشرق الأوسط متداخل المسارح السياسية والدبلوماسية والعسكرية؟ وإذا كانت أميركا قد خرجت من المنطقة فإنها عادت، وإذا كانت روسيا عضواً في الاتفاق النووي، وهي الركيزة العسكرية في سوريا التي أعادت الحياة إلى بشار الأسد، فإنها الآن ربما كانت الدولة الوحيدة التي باستطاعتها الوقوف بين الولايات المتحدة وإيران ومنعهما من السقوط في هاوية القتال، وليس ألمانيا أو اليابان.
إذا كان كل ما سبق غير مفهوم فلا تقلق لأنك أولاً في الشرق الأوسط، الإقليم وليس الصحيفة، وعلى أي الأحوال فربما يكون لقاء القدس قد باح بسرّه، فالحقيقة أننا لم نعد في عهد «سايكس بيكو»!