بقلم - عبد المنعم سعيد
يُقال إنه إذا أردت الزواج فإنك لا تذهب إلى البنك وإنما إلى المأذون، والعظة أن لكل مؤسسة وظيفة.. قد تكون إدارة المال، أو عقد القران، ولكن من الصعب أن تقوم بالوظيفتين معاً. والجامعات فى هذه المعادلة وظيفتها التعليم، والمؤكد أنها ليست حزباً سياسياً، ولعل ذلك كان حتى وقت قريب وظيفة الجامعة الأمريكية بالقاهرة عندما اختلت المهمة ببيان سياسى من مجلس للمعلمين يحتج على زيارة وزير الخارجية الأمريكى «مايك بومبيو» إلى الجامعة وإلقاء خطاب بها. لم يكن البيان اختلافاً مع الوزير وسياسات الإدارة الأمريكية، وإنما هو طلب لمنعه من الحديث فى المقام الأول، وفى الطريق إدانة لموقف رئيس الجامعة، السفير «فرانسيس ريتشاردونى»، لأنه سمح بإلقاء الخطاب. لم تعد الجامعة مكاناً للعلم، وإنما هى حقل للمواقف السياسية، صارت برلماناً أو بالتعبيرات الأمريكية «كونجرس» يصدر تشريعات لا أصول لها فى دستور، فلم تكن هذه هى المرة الأولى أو الأخيرة التى يأتى فيها وزير للخارجية الأمريكية لكى يلقى خطاباً فى الجامعة. ولحسن الحظ أن للجامعة مؤسساتها الحاكمة، وقام «مجلس الأوصياء» بالجامعة بوضع الأمور فى نصابها، والتقييم العادل لرئيس الجامعة، والنظر المتوازن للمسيرة التى مشى فيها بعد توليه المسؤولية فى أوقات صعبة، كان فى مقدمتها تعويم الجنيه المصرى، ما جعل مصروفات الجامعة الدولارية شبه مستحيلة الدفع من ناحية، وعصية على إغراء الأساتذة فى الولايات المتحدة بالقدوم إلى مصر فى أوقات ليست صعبة مالياً فقط وإنما أمنياً كذلك. والآن ومع العام الثالث من نقطة البداية، فإن الأزمة لم يتم عبورها فقط، وإنما حلت محلها توسعات كبيرة، وتحمل خريجو الجامعة من المصريين مسؤولياتها الثقيلة، وفى المقدمة منها تحويل مبنى ميدان التحرير إلى مركز ثقافى فى قلب القاهرة يضيف للعاصمة التراثية أبعاداً جديدة للغنى الثقافى، وتغطية 70% من صندوق مالى للجامعة قدره 100 مليون دولار سوف يمثل «رأسمال» لتمويل مستقبل الجامعة.
التفاصيل فى هذا الشأن كثيرة، ولكن «ثورة الأساتذة» على «بومبيو» لم تكن أنسب الطرق للاحتفال بمرور مائة عام على إنشاء الجامعة الأمريكية، فقد كانت المناسبة تدعو إلى فتح الأبواب وليس إغلاقها، وهى التى بنت تاريخاً فى أن تكون المكان الذى يذهب إليه المسؤولون وصناع الرأى للحديث وطرح القضايا التى تخص مصر والولايات المتحدة والعالم. وأذكر أنه عندما تولى الرئيس أوباما المسؤولية، وانتوى إلقاء خطاب موجه إلى العالم الإسلامى، جاء إلى المنطقة مَن يبحثون عن أنسب الدول، حيث كانت المنافسة بين مصر والسعودية وتركيا وإندونيسيا، وعندما رجحت كفة مصر لأسباب معلومة بات السؤال: أين يكون الخطاب، وهل هو فى جامعة الأزهر أم الجامعة الأمريكية أم جامعة القاهرة؟ فازت جامعة القاهرة بالمناسبة، وأياً كان موقف «أوباما» من مصر فى أوقاتها الصعبة بعد ذلك، فإن الخطاب سوف يكون تذكاراً لمحاولة بناء الجسور بين الغرب والعالم الإسلامى. «خطاب بومبيو» كان مختلفاً كما ذكرت فى مقال منشور فى الأهرام الغراء فى 16 يناير المنصرم، ولكن لا توجد وظيفة أخرى للخطب إلا أن تكون مختلفة ومتميزة فى التعبير عن مواقف ومناهج سياسية أخرى لشخص قادم من واشنطن كما هى، وليس كما يتخيلها بعضنا عبر المحيط والبحر إلى مصر.
وفى الحقيقة، لم تُقدر لى معرفة السفير «ريتشاردونى» عندما كان سفيراً لبلاده فى القاهرة، وقامت سمعته على أنه يحاول الاقتراب من مصر الدولة والشعب ليس سياسياً فقط وإنما ثقافياً وفكرياً. وعندما أُتيحت الفرصة للمعرفة به بعد ذلك فى واشنطن وبوسطن والقاهرة بعد خروجه من الخدمة الدبلوماسية، فإن الشخصية عكست معرفة عميقة بالمنطقة أسهمت كثيراً فى التعامل مع أزمات الجامعة عندما أتى إليها حتى دخلت عامها الأول بعد المائة وقد تنفست الصعداء ببقائها رائدة للجامعات الخاصة فى مصر. وربما كنت من جيل جامعة القاهرة الذى كان ينظر إلى الجامعة الأمريكية باعتبارها لأولاد الشريحة الاجتماعية المصرية العاجزة عن المنافسة فى الثانوية العامة المصرية، ويغطون بالمال هذا العجز. ولكن الزمن دار دورته، وأصبحت الجامعة هى المزار والمصدر لتعليم متقدم ومفيد عندما بدأت الدولة تدخل فى مرحلة الانفتاح، ثم الإصلاحات الاقتصادية، وأخيراً عندما فُتحت الأبواب للجامعات الخاصة فى مصر، فأصبحت الجامعة الأمريكية هى المعيار الذى يسعى الجميع للوصول إليه أو السباق معه أو تجاوزه. فى العيد المئوى للجامعة أصبح لها مكان مؤسس فى «القاهرة الجديدة»، وكأنها بعد قرن من الزمان تلوح لقرن جديد أكثر التحاماً بالبيئة التى تعيش فيها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع