بقلم : عبد المنعم سعيد
انعقدت ورشة العمل الاقتصادية فى «المنامة» الخاصة بالقضية الفلسطينية وانفضت كما هو الحال فى ورش العمل والتى تقوم على الخبراء والتكنوقراط الذين يعرفون كيف يقولون كل شىء ولا يقولون شيئا فى نفس الوقت! ولما كانت هذه هى ورشة العمل الأولى فى الموضوع، فإنها كانت لإعلان المواقف السياسية والاقتصادية فى القضايا الجزئية والكلية. وربما كانت أهم إنجازات الورشة ما سبقها لأول مرة وبعد انتظار طويل وثيقتان، كلتاهما تحت عنوان «من السلام إلى الرخاء»، وتقول فى الصفحة الأولى «إن الهدف هو تمكين الشعب الفلسطينى لكى يبنى مستقبلا أفضل لهم ولأطفالهم». الصفحة التالية مباشرة لا تكتفى بالشعب الفلسطينى، فعنوان ملخص المشروع الاقتصادى هى «رؤية للفلسطينيين والإقليم»؛ وهو ما سنفهمه فيما يلى من صفحات حيث بات هدف «الرؤية» هو «تغيير وتحسين العيش للفلسطينيين وشعوب المنطقة من خلال انطلاق النمو الاقتصادى، وفتح الباب للإمكانيات البشرية، وتعزيز الحوكمة الفلسطينية بعد اتفاقية سلام». لاحظ هنا أن الأمر كله يتوقف على توقيع اتفاقية للسلام، وليس كما ذاع من أن الحديث الاقتصادى هو بديل للمعاهدات السياسية؛ كما أن ورشة العمل ليست الخطوة التى عندها تنتهى كل الخطوات؛ ما لدينا مجرد فاتحة كلام، ونوع من التسخين الأول القائم على المعرفة بإمكانية تغيير الأمر الواقع لأن يكون هذا السلام ليس فقط سبيلا لتغيير الجغرافيا الظالمة القائمة، وإنما تعديل الديموغرافيا البائسة الحالية.
البداية لا تمنع من الكلام، وطالما أن البدائل الأخرى ليست سهلة وعلى الأرجح أنها تزيد من الظلم وتقوى من البؤس، وأن أهل الحى لديهم أمور أخرى لا تقل أهمية بالنسبة لهم، فإن الاطلاع على الوثيقة وفحصها ربما يفتح أبوابا مغلقة. وبصراحة كاملة فإن أسوأ الأوضاع للشعب الفلسطينى، والمنطقة كلها، هى التى تقوم على استمرار الوضع الحالى الذى يعنى الهيمنة الإسرائيلية، ومعها الانقسام الفلسطينى. وإذا كانت هذه هى الفاتحة فإن الوثيقة ذاتها أقل إخلاصا بكثير لما أثير حول المنهج الاقتصادى للتسوية كما أوحى بذلك طارحو المبادرة (كوتشنر وجرينبلات)، والتى توسع فيها الرافضون. الصفقة كلها تقوم على برنامج للتنمية قيمته الكلية 50 مليار دولار وهو مبلغ أولًا لا يأخذ الحالة الاقتصادية الراهنة للشعب الفلسطينى والتى دمرت له قطاع غزة خلال السنوات الأخيرة عدة مرات فى أربعة حروب.
وهو ثانيا موزع على عشر سنوات، بمتوسط قدره خمسة مليارات فى العام، وهو قدر لا يتناسب مع لا عدد السكان المراد تغيير حياتهم، ولا مع الهداف الحاص بالسلام الإسرائيلى الفلسطينى، ولا السلام الإقليمى. وهو ثالثا مقسم على أربعة أطراف يكون فيها تقريبا للفلسطينيين 28 مليار دولار، والأردن 7.4 مليار، ولبنان 6.3 مليار، ومصر 9.1 مليار.هذه الأرقام ليس فيها الكثير مما يغرى بانقلاب الأحوال القائمة، فإن معرفة أن ما فيها من منح لا يزيد على 13.4 مليار، أما الغالبية وهى 25.7 مليار فهى قروض «مدعمة» أى قليلة الفائدة، وتسدد على أجال طويلة لم تحدد؛ ولكنها فى كل الأحوال تكون قروضا على الفلسطينيين لبناء الدولة، وتعمير ما تهدم، ومعهم الأردن ولبنان ومصر للتعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين. وما تبقى من الصفقة التى تعبت فى تتبعها جماعات الرفض وقيمته 11.6 مليار يأتى من الاستثمارات الخاصة. هنا فإن 20٪ تقريبا من الصفقة العظمى سوف تعتمد على مستثمرين عليهم أن يقتنعوا بأن إقامة الحواجز الإسرائيلية هو من محفزات الاستثمار! الصفقة ربما لكى تكون كذلك لا بد لها أن تبدأ بإزالة الحواجز وخروج الإسرائيليين من المناطق التى تسيطر عليها السلطة الوطنية الفلسطينية، ومعها تستأنف إسرائيل إرسال الأموال الفلسطينية إلى السلطة الوطنية كاملة غير منقوصة، وغير ذلك فإنه نوع من السرقة العلنية لا يصلح عندها الحديث عن المحرك الاقتصادى للسلام. هذه، الحواجز والأموال، ليست أمورا سياسية فقط وإنما هى جوهر الأمور الاقتصادية. المشروع من الناحية الفلسطينية فيه تلخيص لكثير من مشروعات البنية الأساسية التى كانت واردة على خطط التنمية الفلسطينية، وعلى طاولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ومنها إقامة رابط للمواصلات بين غزة والضفة الغربية تكلفته خمسة مليارات، ومليار لتنمية قطاع السياحة الفلسطينى، والباقى لتنمية قطاعات الزراعة والتعليم والصحة والإسكان والطاقة. طرح المسألة بهذا الشكل ناطق بالكثير من الشروط الأمنية والسياسية لإنجاز هذه المهمة، وهى التى لا يمكن تحقيقها إلا من خلال اتفاق فلسطينى إسرائيلى يقوم على ما تم التوصل إليه من قبل فى إطار اتفاق أوسلو؛ ولكن ربما الأهم فإنه يحتاج اتفاقا فلسطينيا/ فلسطينيا بين السلطة وحماس التى حتى الآن قوضت بما يكفى حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
ما يخص مصر فى المشروع فيه ذات الشروط التى تجعل مصر تحصل على 900 مليون دولار لمدة عشر سنوات بما فيه من قروض ومنح، وهو قدر أقل بكثير مما كان يمكن لمصر الحصول عليه من صندوق النقد الدولى (12.5 مليار دولار على مدى خمس سنوات فقط)، وبالتأكيد فإنه يمثل هامشًا صغيرًا على تحويلات العاملين المصريين فى الخارج التى بلغت فى 2018 ما مقداره 25.7 مليار. وللحق، وأيا كانت القيمة ليست بالمبالغة التى جرى تصويرها من قبل الأمريكيين، فإنه يسير فى نفس مجرى المشروعات المصرية الحالية، فهى موزعة على 12 مشروعا: خمسة مليارات لبنية المواصلات؛ و1.5مليار للبنية الخاصة بأن تكون مصر مركزا إقليميا للطاقة؛ و2 مليار مقسمة على البنية الأساسية للكهرباء والمياه والطرق والسياحة بمتوسط قدره 500 مليون دولار لكل منها 125 مليون دولار تذهب إلى برنامج أمريكى لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ و30 مليونا لرفع الطاقة الكهربية المصدرة بالفعل إلى غزة إلى 100 ميجاوات خلال ثلاث سنوات؛ و12 مليونا لتحسين الطرق الحالية بين مصر وغزة؛ وكل ذلك مع التزام أمريكى بتوسيع نطاق المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) التى تصدر إلى الولايات المتحدة بدون رسوم. ما قيل عن ضم مناطق مصرية إلى غزة أعلنته مصر بوضوح، وكما قال وزير الخارجية سامح شكرى ولا حتى حبة رمل واحدة؛ ما يخص غزة فى المشروع من الناحية المصرية لا يزيد طرقا وطاقة عما تقوم به مصر فعلا، ولا شك أن مصر ترغب فى زيادته إذا ما توافرت إمكانيات لن تتوافر إلا إذا كانت هناك اتفاقية سلام عادلة.