بقلم : د. عبد المنعم سعيد
هناك دائما فارق بين «تسجيل الموقف» و«السياسات». الأول حالة ملتهبة من المشاعر المرتبطة بمبادئ أساسية لدى المواطن تتحرك إلى كلمات وكتابات تتحمس إلى ما يتوافق معها، وترفض ما تختلف عليه.
وفى العادة فإن ما يقال أو يسطر يكون عالى النبرة لا يسالم المختلف فى الموقف، ولا يخلق مساحة للحوار أو التوافق أو البحث عن أرضية مشتركة. هو عادة يستجيب لمجموعة من الكلمات التى تمثل «زر التشغيل» الذى يفتح الباب على مخزون كبير من عدم الثقة والإحباط وانتظار المصائب التى لا يعرف أحد متى سوف تأتى.
والثانية هى أدوات «السياسة» لتغيير الواقع، وهى فى العادة حزمة من الإجراءات لتغيير واقع مؤسف بعينه لا تكفى سياسة واحدة لتغييره ومن ثم فإنه لا يمكن فصل «السياسات» عن تعقد الواقع المراد الخروج منه.
هنا فإن المسألة فى جوهرها عملى، والارتماء على المُر فى أسوأ الأحوال يكون بسبب الذى هو أشد منه مرارة، والضرورات التى تبيح المحظورات. وعندما طرحت الحكومة المصرية سياسة إمكانية التجنيس خلال خمس سنوات مقابل وديعة سبعة ملايين جنيه، فإن هذه السياسة لم تناقش باعتبارها سياسة لمعالجة واقع بعينة ضمن حزمة كبيرة من السياسات الأخرى التى ترمى لتحقيق ذات الهدف؛ ولا نوقشت ضمن السياسات والقواعد والقوانين السابقة؛ وإنما كانت كلمة «الجنسية» هى الزر الذى ضُغط لكى يُنتج مواقفَ عن «الجنسية» و«الوطنية» و«الهوية» التى كلها أمور «لا تباع ولا تشترى». هى تَذْكرة بقصيدة أمل دنقل الشهيرة التى شكلت موقفه من عملية السلام مع إسرائيل حتى لو كان ما يجرى هو استعادة للأراضى المصرية المحتلة فى سيناء، فقد كان فهمه- رحمه الله- أن المفاوضات هى مساومة فى أمور لا تباع ولا تشترى!
الموضوع الأساسى فى السياسة المصرية، فى الداخل كما فى الخارج، هو استعادة «التوازن» للحالة الاقتصادية والاجتماعية المصرية. فنحن نزيد سكانيا بأكثر مما تتزايد الفرص، ونحن نستورد بأكثر مما نصدر، ونحن نستهلك بأكثر مما ننتج، ونحن ننفق بأكثر مما نحصل عليه من موارد مالية، وترجمة ذلك هو أن لدينا عجزا كبيرا فى الموازنة العامة للدولة، وديونا تستحق السداد حصلنا عليها للتعامل مع هذا العجز، ومن ثم فإن الدولة انخرطت فى سلسلة من السياسات التى تؤدى إلى سد هذه الفجوات.
وخلال السنوات الأربعة الماضية، لم تخرج الدولة فقط من الآثار المباشرة لعهد الثورات وتوقف البناء فى البنية الأساسية، وإنما سعت إلى ارتفاع معدل النمو حتى تجاوز ٥٪، لكن حتى نستطيع تحقيق التوازن فإننا نحتاج رفع هذا المعدل ليصل إلى ٨٪ سنويا وبشكل مستقر لفترة زمنية معقولة. النتيجة حتى الآن مبشرة، فالعجز يضيق، ولكنه مستمر، والاقتراض يجرى استثماره وسداده، ولكننا حتى نحقق ما نصبوا إليه نحتاج إلى ما هو أكثر، وهذا ما حدث فعلا وبشجاعة بفتح ملفات من أول استخدام «رأس المال الميت» فى أصول الدولة المصرية، بحيث يتحول من نزيف على الدولة إلى مولد موارد لها، وحتى الحصول على عائد من التجنيس.
وهكذا لا يمكن فهم قانون منح الجنسية للأجانب إلا إذا كان ذلك ضمن سياسات أخرى لزيادة الموارد لمواجهة التحديات وتحقيق الأهداف الموضحة أعلاه. كما لا يمكن فهم هذا القانون إلا إذا عرفنا أن القانون المصرى الحالى يعطى ذات الفرصة للأجانب، وكل ما يفعله القانون الجديد هو أنه بدلا من استغراق هذه العملية عشر سنوات فإنها الآن سوف تصير خمسًا، وما عدا ذلك من إجراءات لها علاقة بمراجعة الحالة الأمنية والتاريخ الجنائى للشخص فهى باقية على حالها. وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك عددا من الحقائق الموضوعية الأخرى: أولها أن خمسة ملايين لاجئ بالفعل موجودون فى مصر، ومن كان منهم سوريا أو فلسطينيا أو سودانيا أو عربيا بصورة عامة، فإن القانون المصرى يعطيه بالفعل بعضا من مميزات المواطنة زادت أو نقصت.
وثانيها أنه منذ أن أقرت الدولة المصرية قانون إعطاء الجنسية المصرية لأولاد السيدات المصريات المتزوجات من أجانب، فإن المنطقى هو إعطاء هذه الجنسية للزوج طالما توافرت فيه الشروط الأخرى أمنية كانت أو جنائية.
وثالثها أن السياسة المصرية المقررة فى هذا الشأن لا تختلف شكلا أو مضمونا عن تلك الشائعة بين دول العالم، وإن اختلفت مسمياتها أحيانا. ومن الدول القريبة مثل قبرص واليونان، فإن التسويق للجنسية شائع بكثرة وبشروط أكثر سهولة مقابل القدرة على الحركة فى الاتحاد الأوروبى. وفى بريطانيا فإن ملكية العقارات بعد زمن معين تصير مسوغا للحصول على الجنسية، أما فى كندا والولايات المتحدة فإن امتلاك العقارات ووجود أموال فى البنوك والعمل أحيانا لفترة زمنية مستقرة تكفى لإعطاء البطاقة «الخضراء» أولا، ثم الجنسية بعد ذلك. وفى الحقيقة فمعظم دول الهجرة فى العالم، مثل أستراليا ودول أمريكا الجنوبية لديها شروطا مماثلة تتعلق بالحالة الاقتصادية والأمنية والجنائية، وإذا أضيف إلى كل ذلك المهارة والتعليم فإن الطريق يكون سريعا.
ما فعلته مصر ليس بدعة إذن، ولكنه واحد من الطرق التى اتبعتها دول كثيرة قبلنا؛ وإذا أضيف لها ما يرتبط بالواقع المصرى بما فيه من تحديات وطموحات فإن الإجراء المصرى يصبح منطقيا، ولا شيء فيه يجتزأ بحيث تبدو المسألة كما لو كانت الدولة المصرية استيقظت فى الصباح لكى تبحث عن وسيلة تبيع فيها وتشترى فى الهوية والجنسية المصرية. ففى الأول والآخر إننا شعب مكث على هذه الأرض آلاف السنين، ويزيد عدده الآن على مائة مليون نسمة يملكون مليون كيلومتر مربع من الأرض، فإذا أضيف آلاف من الموجودين بالفعل فى المحروسة أو حتى قدموا لها خصيصا فى ظروف خاصة، فإنهم لا يمكنهم تشكيل تهديد. ربما لا نحتاج الثقة فقط فى الدولة المصرية، وإنما ربما أكثر فى مزيد من الثقة بأنفسنا.
نقلًا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع