بقلم : عبد المنعم سعيد
هناك دائماً تلك الشعرة التي تقصم ظهر البعير عندما يبلغ السيل الزبى، وتبلغ القلوب الحناجر؛ ويبدو أن ذلك بات هو حالة الشعب اللبناني أو بعض منه، معظمهم من الشباب العشريني، أو الأقل من ذلك، الذين خرجوا بمئات الألوف في جميع أركان لبنان، ولكن البؤرة، كما هو متصور، كانت بيروت. المشهد بات مألوفاً، والفيلم شاهدناه من قبل عدة مرات، وفي كل الأحوال، فإن العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين لا تزال فيه شهور باقية تستوعب في دولة عربية أخرى نوعاً من الربيع «الخماسيني» الجديد الذي حدث هذه المرة في الخريف. بدأت الأحداث يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وعلى الطريقة اللبنانية بعد السادسة مساء؛ فاللبنانيون لا يتظاهرون في يوم إجازة، ولا بعد صلاة الجمعة، وإنما يتظاهرون بعد مواعيد انتهاء العمل، وفي مواعيد السهر. قِيل قديماً إنه حتى تكون المظاهرات والإضرابات مؤثرة في باريس، فلا بد لها أن تحدث في ليلة رأس السنة، وفي بيروت، فإن أنسب الأوقات بعد غروب الشمس، حيث كان الزمن دائماً للهمس أو للكلام، والآن للهتاف والتظاهر والغضب، وحتى تكون هناك مؤثرات صوتية وبصرية تشتعل النيران بالقرب من قصر الحكم وفي ساحة رياض الصلح. سبب التظاهر المباشر، والقشة التي قصمت ظهر البعير، والتي عندها بلغت القلوب الحناجر وبلغ السيل الزبى، كان إعلان الحكومة اللبنانية عن فرض ضريبة على الـ«واتسآب»؛ تلك الوسيلة الاتصالية العجيبة، التي لا أدري شخصياً كيف يمكن عملياً فرض الضرائب عليها، ولكن الأشقاء في لبنان لهم في العجائب عجب كان كافياً لإشعال ثورة كبيرة نافست أخبار الغزو التركي لسوريا، والسعي الأميركي في تلك الليلة لعمل «وقفة»، وليس «وقفاً» لإطلاق النار؛ وأكثر من ذلك توصل بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على «بريكست».
لم يكن الموضوع اتصالات الشباب المكلفة بضرائب جديدة، ولو كانت كذلك لكان إعلان وزير الاتصالات اللبناني برفع الضريبة كافياً، لكي يعود الشباب إلى بيوتهم. لم يحدث ذلك، ووعد الشباب أنهم سوف يستمرون في التظاهر، لأن الشعب لديه ما هو أهم وهو «إسقاط النظام». هو شعار بدأ في تونس والقاهرة في مطلع العقد الحالي، وخلال هذا العام جرت موجة جديدة من «الربيع العربي» ضمَّت السودان والجزائر والعراق والآن لبنان. وبالمناسبة، فإن أشياء مماثلة أيضاً تجري الآن في الإكوادور وكاتالونيا وهونغ كونغ قوامها شباب وغضب، أحياناً على الأسعار، وأحياناً أخرى على الفساد، وأحياناً ثالثة لتقرير المصير، وفي كل الأحوال التغيير وكفى!
ما يهمنا في هذه الحالات لبنان، ليس فقط لأنها دولة شقيقة، أو لأننا نحبها عندما تغني فيروز «بحبك يا لبنان»، وإنما لأن ما جرى بعد هبوط المساء كان إعلاناً يؤكد أن «الربيع العربي» لم ينته بعد، ولا يزال معنا حقيقياً في الشارع، أو مختفياً كالأشباح ينتظر ساعة ظهور. وسواء ظهرت الأشباح في شكل «ثورة» من أجل التغيير الشامل؛ أو أنها كانت «مؤامرة» لهدم الدولة الوطنية، فإن مرحلة «الربيع العربي» التي جرت كانت نتيجة تحركات جماهيرية كثيفة - مليونية كما قيل وقتها - لكي تعلن أن ما كان سائداً سياسياً أو اقتصادياً خلال العقود السابقة لم يعد مقبولاً؛ وأنه آن الأوان لكي يبدأ عصر آخر جديد لم يكن أحد يعرف له تعريفاً أو حدوداً أو أفقاً؛ كان في الحقيقة جديداً وكفى، فلا عرف «الثوار» له نظاماً للحكم، ولا شكلاً للاقتصاد، ولا طريقة لإدارة القضايا الاجتماعية، وباختصار لم يكن أحد يعرف طبيعة الدولة التي يريدون لها أن تحل محل الدولة التي يريدون هدمها. أكثر من ذلك كانت المرحلة كلها بلا قيادة، وكانت هناك كثرة من جنرالات القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية بلا جنود تتبعهم. ما تبقى من المرحلة كلها كان قدرة الشباب - وبعد ذلك أصبحوا الجماهير وأخيراً «الشعب» - الذين لهم القدرة في حالة من الكثافة التي تستطيع أن تهز عروشاً وتُسقط نُظماً.
بالطبع، فإن الليلة في لبنان لا تزال خضراء، وقت كتابة هذا المقال، فربما كان الأمر في النهاية سهرة لبنانية إضافية مثيرة؛ ومع ذلك فإن ما قيل في هذه الليلة لم يكن مثيراً فقط، ولكنه كان تعبيراً عن اختبار كبير، إما أن يقود الدولة اللبنانية إلى مراجعة التوافق التاريخي الذي قامت عليه الدولة، والانتقال إلى دولة وطنية شاملة تقوم على المواطنة التي يتساوى تحت سقفها الجميع بغض النظر عن طوائفهم. أو أن يقود الأمر إلى فوضى عارمة.
المسألة ببساطة لدى الشباب هي أن الدولة اللبنانية التي جرى التوافق عليها عام 1946 لم تعد قادرة على القيام بوظائفها. فالدولة التي كانت تتفاخر على بقية الدول العربية بحرية السوق والرأي والبنوك، وعش ودع الآخر يعيش، وأن قوة لبنان في ضعفها حتى باتت سويسرا الشرق؛ فإنها لم تعد كذلك. الشباب يقول: أولاً أن الثورة هي على الطبقة السياسية من زعماء القبائل والعشائر والطوائف التي تتقاسم فيما بينها الثروة والسلطة والمعونات الأجنبية، ويورثون كل ذلك لأبنائهم وأقربائهم، لا فرق في ذلك بين سني وشيعي ودرزي ومسيحي من الموارنة أو من الروم الكاثوليك أو الأرثوذوكس. ثانياً أن الفساد بلغ بهذه الطبقة مبلغاً كبيراً، وكان في هذا الفساد تواطؤ في الإنفاق المشترك للمال العام الذي ينتهي إلى عجز كبير يتم سده عن طريق ضرائب جديدة. ثالثاً أن الدولة التي تقتسم السلطة الأمنية والقرارات السياسية والاقتصادية الكبرى مع حزب عسكري وسياسي يقيم داخل الدولة دولة أخرى، يفقدها أهم خصائصها، وهي الاحتكار الشرعي لأدوات القوة. «حزب الله» أكثر من ذلك، لا يدخل لبنان في حروب لا شأن له بها، وإنما هو بتصنيفه الدولي كحزب إرهابي يفرض على لبنان عقوبات لا قبل له بها، ولا يتحملها لا الشباب ولا الشيوخ. ورابعاً أن الهجرة التي كانت ملاذ اللبنانيين في كل أزمة وحرب أغلقت أبوابها، ولم يعد ممكناً النفاذ من نوافذها. وأهل لبنان، الفينيقيون القدامى، ليسوا من هؤلاء الذين يسبحون في البحر المتوسط بحثاً عن شاطئ يصلون إليه.
ما شاهدناه ليلة الأربعاء الماضي كان المشهد الأول، والصرخة الأولى؛ ولم نكن قد عرفنا بعد برد فعل القوى التقليدية في لبنان؛ بعض الوزراء وضعوا القصة كلها في عدد من الإصلاحات الاقتصادية المحدودة، ربما لأنهم لم يسمعوا ماذا يريد الشباب، أو ربما لأنهم يعتقدون أن النظام على تخلفه من القوة بحيث لا يمكن بعثرة أركانه، أو لأنهم كما كان الحال من قبل يعتقدون أن اللعبة في لبنان ليست لبنانية، وإنما هي إيرانية وسورية وإسرائيلية. أياً ما كان الأمر، فإن الربيع أو الخريف ما زال في أوله.