بقلم : عبد المنعم سعيد
وصلت إلى الولايات المتحدة لأول مرة يوم السبت 29 سبتمبر (أيلول) 1977، متأخراً خمسة أسابيع عن بدء الدراسة الجامعية، ومتطلعاً في الوقت نفسه لمستقبل دراسي واعد، والتعرف على بلد كبير شاهدته كثيراً في أفلام السينما. وبحكم دراسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة كنت أعرف الكثير عن النظام السياسي الأميركي، ومع ذلك صمم أستاذي أن أضيف فصلاً - 101 - خاصاً بالمبتدئين في الجامعة عن النظام السياسي للدولة التي سوف أقضي فيها السنوات الخمس التالية. كان الرئيس جيمي كارتر في عامه الأول، وكان وصوله إلى البيت الأبيض نوعاً من الثورة، لأنه كان ديمقراطياً بعد ثماني سنوات من حكم الجهوريين، كما أن شعاره الأساسي في حكم الدولة كان حقوق الإنسان في داخل أميركا وخارجها. كانت الولايات المتحدة تخرج تدريجياً من حرب فيتنام وآثارها، وحتى الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي خفّت في مرحلة عرفت أيامها بالوفاق. منذ ذلك الوقت ولأسباب شتى دراسية وأكاديمية وسياسية كان لا بد أن أعرف عن الدولة الأميركية الكثير، ومن لحظة بداية الدولة مع الثورة الأميركية وحتى الانتخابات الأميركية الأخيرة في 2016، وما بينهما من أحداث جسيمة في الداخل منها الحرب الأهلية، وفي الخارج من حروب عالمية، وأخرى تدخلت فيها أميركا في شؤون دول أخرى لمنافسة الاتحاد السوفياتي، أو للهيمنة العالمية، حسب تقدير الناظرين.
النتيجة كانت من ناحية، أن المؤسسة العسكرية وما حولها من مؤسسات أمنية تحصل على النصيب الأكبر من الميزانية الأميركية العامة وهذا مصدر للنفوذ، ومن ناحية أخرى فإنها تقف على الحياد تماماً داخل الساحة السياسية فهي خاضعة للسلطة المدنية في الدولة، تأتمر بأمرها وفق الحدود التي أقرها الدستور. العلاقة في العموم بين الجيش والسلطة يسودها الاحترام، ورئيس الدولة يضع سياسات الأمن القومي من خلال جهاز للأمن القومي يضم فروع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى؛ وهذه الأخيرة تنفذ هذه السياسات. السائد هو أن النخبة السياسية في السلطة أو خارجها في المعارضة تتحدث عن القوات المسلحة باعتزاز شديد لا يقل عن ذلك الاعتزاز الذي يوجد في بلدان العالم الأخرى؛ ومن ناحية أخرى فإن جنرالات القوات المسلحة حريصون للغاية فيما يصدر عنهم من تصريحات على أن السلطة العليا في البيت الأبيض هي الأمين على الأمة ودستورها.
كانت هذه هي الصورة العامة عن العلاقة بين السلاح والسلطة السياسية في الولايات المتحدة، حتى جاء المرشح دونالد ترمب إلى الساحة السياسية الأميركية، وأثناء حملته الانتخابية كان يوجه اللوم للجيش الأميركي؛ لأنه لم ينتصر في حرب منذ الحرب العالمية الثانية! لم يكن ذلك لأن المرشح يريد تقليص ميزانية الجيش، أو أنه يريد العزلة والانكفاء على الداخل؛ وإنما لأنه كان معتقداً أن خصومه من الديمقراطيين والليبراليين كانوا يورطون الولايات المتحدة في حروب لا يمكن كسبها. وعندما فاز المرشح وأصبح على أبواب البيت الأبيض فإنه لم يوجد داخل طاقمه جنرال مرموق حتى بين هؤلاء الجمهوريين الذين خبروا السلطة مثل كولين باول. وعندما استقر على الجنرال ماكماستر لكي يكون مستشاره للأمن القومي، وماتيس لوزارة الدفاع فإنهما ما لبثا أن خرجا من طاقم الرئاسة تاركين المجال لشخصيات أقل شأناً في صفوف الجنرالات. في العموم، فإن علاقة ترمب مع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية مثل وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي لم تكن أبداً سلسة، وانتابتها الكثير من الغيوم، خاصة بعدما ظهر من تدخلات روسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح المرشح الذي بات رئيساً، وما ظهر من جهود قام بها الرئيس لدى الحكومة الأوكرانية لكي يجد ما يلوث خصمه الديمقراطي الحالي جو بايدن. وتوارد في مذكرات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة ترمب، أن الرئيس طلب من الرئيس الصيني مساعدته في الانتخابات الرئاسية المقبلة بشراء سلع زراعية تعزز من موقفه في الانتخابات المقبلة.
لم يكن الأمر فيما بين السلاح والسلطة السياسية العليا راجعاً فقط إلى الرئيس وموقفه من الجيش، وإنما أيضاً بسبب سياسات الرئيس التي خرجت عن الرواسي الرواسخ في السياسة الدفاعية الأميركية. فلا كان الجيش راضياً عن موقف الرئيس من حلف الأطلنطي، ولا من روسيا، ولا من الانسحاب في الشرق الأوسط، ولا سياسة الرئيس تجاه كوريا الشمالية والصين. ومع ذلك، ورغم هذه الخلافات، فإن الجيش ترك المسألة بكاملها للمؤسسات الدستورية في البلاد لكي تحسم فيها. ومع ذلك، فإن أكثر من طرف في الساحة السياسية الأميركية حاول جذب الجيش إلى المجال الذي يبتعد عنه الجيش حسب التقاليد الأميركية. وكانت الحادثة التي فجّرت الموقف هي المظاهرات العنيفة التي أعقبت مقتل الأميركي الأفريقي جورج فلويد في مدينة مينيابوليس من قِبل رجل شرطة من البيض. فجّر الحدث غضباً كبيراً بين الأميركيين الأفارقة، والبيض الليبراليين، وجماعات من الأقليات الأميركية المختلفة. استمرت المظاهرات لأسابيع وصاحبها أحداث عنف وحرق لمؤسسات عامة وخاصة؛ ووقتها أعلن ترمب أنه ساعة النهب سوف تكون هي ساعة إطلاق الرصاص. كان التعبير خارجاً عن التقاليد الأميركية في الحرص على عدم وضع الجيش الأميركي في مواجهة جماهير أميركية. وعندما أعلن ترمب أنه ربما يقوم بتعبئة 10 آلاف جندي أميركي للقيام بمساندة الشرطة المحلية والحرس الوطني في الولايات المختلفة، فإن ذلك دفع عدداً من الجنرالات المتقاعدين – ديمبسي وباول – لإدانة هذا القول. وعندما استدعت الشرطة المحلية في العاصمة واشنطن قوات الجيش بفض الاعتصام القائم في حديقة لافييت أمام البيت الأبيض، واستخدمها الرئيس في التقاط الصور التي يرفع فيها الإنجيل وتعزز موقفه في الانتخابات القادمة؛ فإن رئيس الأركان مارك ميللي الذي كان حاضراً قدم اعتذاراً للشعب الأميركي عن قيامه بهذه المهمة. بعد ذلك توالت التصريحات من وزراء الدفاع السابقين غيت وباول وماتيس؛ أما وزير الدفاع الحالي إسبر، فإنه أعلن أن الجيش الأميركي لن يطلق النار على المواطنين الأميركيين. هذا التراشق اللفظي بين الجنرالات والسلطة السياسية غير مسبوق في السياسة الأميركية.
وما لم يكن مسبوقاً أيضاً جاء من الجانب الديمقراطي، وعندما سأل المرشح الديمقراطي جو بايدن عما سوف يفعله إذا ما فاز في الانتخابات ورفض الرئيس ترمب الخروج من البيت الأبيض، كانت الإجابة أن ذلك سوف يكون مهمة القوات المسلحة. هذه الدعوة جاءت طرحاً لاحتمال غير متوقع في التاريخ الأميركي، لكن الرئيس ترمب دأب على القول في الانتخابات الماضية، وتلك الراهنة، إن هزيمته في الانتخابات سوف تعني أن الانتخابات جرى تزويرها. امتد الأمر إلى التاريخ نفسه عندما بدأ المتظاهرون في إسقاط تماثيل جنرالات الجنوب أثناء الحرب الأهلية، وحرق الأعلام الكونفدرالية التي تنتمي إلى الجنوب أيضاً على اعتبار أن أسماء الشوارع والتماثيل والأعلام كلها تمجد لعصر تمسك بالعبودية. لم تكن هذه هي أميركا التي عرفتها ودرستها، دعونا ننتظر ونرى كيف يفض التاريخ أسراره؟