بقلم - عبد المنعم سعيد
كانت «كوكب الشرق» أم كلثوم هى أول الصلات مع عالم الكواكب والنجوم بالنسبة للجيل المصرى بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما أصبح الموضوع أكثر خطورة بعد نمو الوعى فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى عندما بدأت محاولات إطلاق الصواريخ السوفيتية والأمريكية إلى خارج مدار الكرة الأرضية. لم تعد السماء ثرايا ومصابيح وبرقا وشهبا، وطبقات تتعدد بشأنها الروايات والقصص فى سير مقدسة وإنما مدارات، تختفى فيها الجاذبية ويدخل فيها الإنسان فى مرحلة انعدام الوزن. وفى ١٢ إبريل ١٩٦١ دخل يورى إليكسفيتش ججارين، الطيار السوفيتى، إلى التاريخ كأول إنسان يخرج من المدار الأرضى على السفينة «فستوك» ويدور دورة كاملة حول الكوكب، ودخلت الإنسانية كلها عصرا جديدا. دخل الأمريكيون متأخرين قليلا إلى هذا العصر، لكنهم دخلوا بمشروع كبير للوصول إلى القمر قبل نهاية العقد أعلنه الرئيس جون كنيدى الذى جرى اغتياله فيما بعد، ولكن مشروعه بقى وتم إنجازه فى عام ١٩٦٩ عندما نزل نيل أرمسترونج على سطح القمر قائلا إنها خطوة صغيرة لإنسان لكنها قفزة هائلة للإنسانية، أو شىء من هذا القبيل! كان من طبيعة الأشياء أن يصبح الفضاء ساحة جديدة للسباق بين القوى العظمى تسليحا ونفوذا، ومجالا للحرب الباردة، وربما كان عجز السوفييت عن الوصول إلى القمر قبل الأمريكيين أولى الإشارات على أن توازن القوى التكنولوجى بين واشنطن وموسكو بات مختلا. ولكن المسألة كما سوف يبدو بعد ذلك أكبر كثيرا من صرعات القوة بين الدول، فسرعان ما بدا أن المدار القريب للكرة الأرضية هو الذى بمقدوره تغيير حياة البشر وقلبها رأسا على عقب. جاء عصر «الأقمار الصناعية» وما تبعها من ثورات فى مجالات الاتصالات والإعلام، والتجسس أيضا بالمناسبة، لكى يجعل حياة الإنسان تدخل عصرا كاملا جديدا أخذ ينمو حتى وصل إلى ما نشاهده الآن. المدار البعيد، أو الاستكشاف للفضاء السحيق، أصبح قصة أخرى بعضها يبدو بعيدا فى مجرات أخرى، وبعضها نعرفه نظريا مثل الثقوب السوداء، ولكن بعضها الآخر يبدو قريبا وهو فى داخل المجموعة الشمسية أو المجرة التى نعيش فيها بعد أن سلم الإنسان أنه مجرد ذرة فى كون ليس له نهاية.
وعندما نشر منذ أيام أن المركبة الفضائية «إنسايت» نزلت بنجاح على سطح المريخ بعد رحلة استمرت ستة شهور بهدف استجلاء «الكوكب الأحمر» وقشرته والزلازل التى تحدث فيه، باتت قصة الإنسان مع الفضاء وقد قطعت طريقا طويلا. المركبة تمثل قفزة تكنولوجية ضخمة على تلك التى سبقتها منذ ست سنوات وكان اسمها «كيوريوستي» أى الفضول باللغة الإنجليزية. كانت وكالة «ناسا» الأمريكية ساعتها تجرب حظها فيما لم يصل له إنسان أو آلة من قبل، ومع الرحلة الثانية فإن الأمر يبدو معتادا وساعدت الفنون (السينما خاصة) فى خلق مناخ من الصداقة مع الكوكب «الشقيق». فبعد أن كان المريخ يصور كما لو أنه عامر بوحوش مرعبة، وبراكين حارقة، أمكن لإنسان واحد، وبالعلم الذى نعرفه فى هذه المرحلة من تطوره، أن يعيش على الكوكب، ويزرع «البطاطس»، وتمكن «المريخى» من العودة إلى كوكب الأرض فى النهاية. العجيب أنه فى الوقت الذى بات فيه ممكنا الهبوط على سطح المريخ، أن الزيارة الأولى للقمر بدأت تذهب فى زوايا النسيان، وبعد أن كان الاعتقاد الذائع أيامها أن قمرنا سوف يكون المحطة التى يبحر منها البشر إلى ما وراء الكرة الأرضية، فإن ما جرى كان أن ١٦ دولة من دول العالم المتقدمة أقامت محطة مأهولة دائمة فى الفضاء يسكنها من يستعدون ويجربون من أجل السفر بعيدا. دولة الإمارات العربية المتحدة أعلنت أنها سوف تقيم محطة فضاء مسكونة بالبشر على سطح المريخ مع مطلع القرن القادم، أصبحت الأحلام والحقائق ممكنة.
«غزو الفضاء» كانت له نتائج اجتماعية وسياسية فوق تلك التكنولوجية والاقتصادية المعروفة، وفى فيلم سينمائى «الأرقام الخفية» الذى يعكس وقائع حقيقية فى وكالة «ناسا» للفضاء كان اكتشاف الكون عن طريق فريق عمل من البيض والسود، والرجال والنساء، سببا رئيسيا لدفع المساواة بينهم، وهو الأمر الذى سوف تتعجب أنه لم يكن حادثا فى الولايات المتحدة الأمريكية حتى الستينيات من القرن الماضى. ولكن ما فرقه البشر، قربته النجوم، وفى السبعين عاما التى عشتها كانت النقلة هائلة وسريعة ومتراكمة ومدهشة ومثيرة بين الأرض فى ناحية والفضاء والأقمار والكواكب والنجوم والثقوب السوداء فى ناحية أخرى!
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع