بقلم - عبد المنعم سعيد
هل كانت أحداث يناير 2011 ناجمة عن مؤامرة دولية، وعملية تم التخطيط لها في داخل أجهزة مخابرات عالمية؟ وهل كان ما سبقها خريطة طريق حتى نصل إلى توريث المنصب الرئاسي، أم أن الرئيس مبارك كان سيبقي في الحكم إلي ما بعد الثلاثين عاما؟ وهل يحق لنا تعديل الدستور الحالي أم لا يحق، وإذا ما تم التعديل هل ستكون الدولة أفضل حالا وأعلي قدرة على تحقيق أهدافها, وإذا كان الحال هو العكس ولم يتم التعديل فهل بالضرورة ستتوقف عملية بناء الدولة وستكون مصر أقل قدرة على مواجهة الإرهاب؟ الأسئلة كثيرة للغاية وهي مطروحة علي جميع المصريين، والعنت في طرح إجابات عليها يعود إلي جزئية النظرة، فلكل قضية جوانب قانونية لها علاقة بالدستور السائد، والقوانين المطبقة له, كما أن لها جانبها السياسي المتعلق بعموم التفاعلات السارية في المجتمع ما بين طبقات المجتمع ومذاهبه الفكرية والتنظيمات المعبرة عنها, وجانبها الاقتصادي الذي يعكس قوي الإنتاج وعلاقاتها ومدي الحيوية والفعالية في النمو والتنمية, وجانبها الاجتماعي بين الحضر والريف، وتوزيع الثروة وتوزيع الفقر, وجانبها النفسي حيث القبول والرفض، والاستحسان والاستهجان. الأغلب الأعم في الإجابة على كل هذه الأسئلة أنها غالبا ما تنحي إلى ناحية وتترك الكثير من الأخريات، والأغلب أن هناك نزوعا للبعد عن التوثيق والبرهنة، وفي كل الأحوال فإن الغائب دائما هو المحتوي للحاضر، والمشروع للمستقبل. فكل هذه الأسئلة لا يمكن التعامل معها إنسانيا إلا إذا كان هناك هدف أو أهداف نصبو إليها، وعملية منظمة ذات مكان وزمن للوصول إليها.
لا يوجد طموح هنا لطرح إجابات، فلعل ذلك تم متفرقا من قبل، ولكن المهم هنا أن نحدد نقطة البداية والتي لا يمكن أن تكون واحدة لا في تاريخ مصر القديم، ولا الحديث، ولا المعاصر فذلك يستعصي على مقال صحفي، والاهتمام بذلك هو عمل المؤرخين، ومكانه الرسالات العلمية. وأيا ما كان الواقع ما قبل يناير 2011، فقد جرت أحداث كبري ما بين 25 يناير و11 فبراير نتج عنها خروج رئيس الدولة من منصبه وكان ذلك يخص ما مضي، ولكن ما كان له علاقة بالمستقبل فلم يزد عن الشعار: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وأحيانا يضاف كرامة إنسانية. لم يكن هناك أكثر من هذه الشعارات النبيلة التي كثيرا ما أتت في أحداث عالمية أخري، وكما هي العادة فإن محتواها كان مثل الجمال يقع في أعين الناظرين. لم تكن هناك رؤية واحدة لكيف ننتقل من حيث كنا إلي حيث سنكون, ولا كان هناك ما هو أكثر من الفخر بما تم من إطاحة رئيس، ولم يكن هناك تعليق على الأخطار المحدقة بالوطن ومؤسساته. لم تهز الحرائق مشاعر أحد، فطالما أنها كانت تمس الشرطة، أو مبني الحزب الوطني، فلسبب أو آخر فإنها باتت مشروعة. الحقيقة الوحيدة التي لم يكن ممكنا الهروب منها، والتي فيما أذكر عددها الزميل جمال غيطاس (رئيس تحرير لغة العصر في ذلك الوقت) بأنها كانت 216 جماعة أو ائتلافا سياسيا تعددت أسماؤها، ولكنها بقيت في كل الأحوال بلا مشروع واحد.
كانت أول الاختبارات هي الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ومعه جري الانفلاق الأول بين من أقبلوا على التعديلات، ومن أدبروا عنها، لأنها كانت نتيجة اللجنة التي قادها المستشار طارق البشري نيابة عن الإخوان. ومن عجب أنه بمصاحبة التعديلات كان هناك إعلان دستوري، ومعه انقسمت الساحة السياسية بين المقاطعين والموافقين، وهي ذات الحالة التي استمرت معنا كمصريين في أوقات كثيرة. المقاطعة رغم أنها كثيرا ما كانت تعبر عن هروب من السياسة، فإن ثمنها كان المزيد من الشرذمة، وفوقها إتاحة الفرصة لجماعة الإخوان أو جماعات فاشية أخري لكي تشغل الفراغ، وفي الوقت نفسه فإنها منعت تراكم الفعل السياسي، وتشكيل التنظيمات السياسية. لم تكن اللحظة لحظة التغيير السياسي المنتظر، كانت لحظة انسحاب أو تأجيل التغيير إلى وقت آخر، مع دفع الثمن مزيدا من التفتيت والشرذمة والعجز عن إقامة حالة مدنية لديها الرؤية والفكر والإرادة لكي تأخذ الدولة من النقطة «أ» إلى النقطة «ب». وفي الوقت الذي اندفع فيه الشباب إلى شارع محمد محمود في غزوة وزارة الداخلية، بينما قادتهم مندفعون في غزوات تليفزيونية لإدانة نظام انتهي دون أن يظهر فجر نظام آخر. حدث ذلك بينما يستعد الإخوان للانتخابات المقبلة التي انشغل عنها المقاطعون والعاجزون واللامبالون، أو انخرطوا في تحالفات ديمقراطية تحت الراية الإخوانية. وفي فيرمونت بايع الثوريون محمد مرسي لقيادة الدولة.
سنة الثورة على الإخوان كانت مجيدة لأنها لم تطح بهم فقط ولكنها قامت على الوحدة الوطنية والتآلف ما بين قوي مختلفة, ومن بينها جميعا كانت القوات المسلحة هي التي حملت مشروعا لتأمين البلاد والحرب ضد الإرهاب وبناء الدولة لكيلا يكون إخفاقا آخر لمشروع التحديث المصري الممتد منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن. كان هناك فيض من الحديث عن الليبرالية، والديمقراطية، والانتخابات الحرة، والحياة الكريمة، ولكن محتوي كل ذلك ظل غائبا، فلا كان هناك مشروع بقوانين، ولا مبادرة بدستور، لكن أحدا لم يطلب تجديد الفكر الديني، ولا التعامل مع قضايا البلاد الشائكة في علاقة الدين بالدولة، أو المجتمع وتقاليده بالحرية. بشكل ما كان هناك اطمئنان عجيب أنه طالما تغير الأشخاص، وجاء الأحرار إلى السلطة فإن البلاد سوف تصير في أفضل حال؛ ولم يكن أمام قادة الثوار إلا المقاطعة أو الاستقالة كسبيل للحركة الثورية. وعندما وصلنا إلى الوضع الحالي، فإن أكثر من قدموا لوما للدستور الحالي، باتوا أكثر المعترضين على تعديله؛ وبعد مقاطعة انتخابات مجلس النواب الراهن، فإن اللوم الذائع بات على تبعيته للدولة. وسواء كان الأمر الآن، أو كان فيما سبق في لحظات أخري، فإن الجماعة السياسية المصرية لم تخرج من ذهنية التشرذم أو البعد عن طرح المحتوي للخروج من الواقع والتطلع إلى المستقبل.
نقلا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع