بقلم : عبد المنعم سعيد
قبل عقدين كان ما نشاهده اليوم فى العالم الآن لم يكن لأحد أن يتخيل حدوثه، ولا كان يخطر على بال بشر. فى ذلك الوقت كانت الموسيقى العالمية تعزف لحن العولمة، وتروى قصة عالم جديد لم تعد فيه لا حرب ساخنة ولا باردة، والجديد كانت رواية التكامل الاقتصادى، ومولد عملاق عالمى هو الاتحاد الأوروبى يتسابق على دخوله جماعة الدول التى كانت فى حلف وارسو سابقا، وبات ذلك مثالا يراد تطبيقه هندسيا على دول العالم أجمع من خلال حرية التجارة والانتقال للبشر والأموال والتكنولوجيا، وأفكار وقيم اقتصاد السوق. دول مثل الصين والهند وروسيا ووراءهم طابور طويل من الدول ذهبت إلى ما ذهب إليه الغرب منذ وقت بعيد. كانت الحرب الباردة قد ذهبت إلى غير رجعة، ولم يعد على الأجندة العالمية سوى مزيد من التكامل على جانبى المحيط الباسيفكى، وما هو أكثر من تعميق الاتحاد الأوروبى من خلال عملة موحدة وبنك مركزى موحد للولايات المتحدة الأوروبية مع مطلع الألفية الثالثة. وعندما حدثت الأزمة المالية الآسيوية عام ١٩٩٧ وأخذت فى طريقها المكسيك وروسيا، فإن العالم كان قادرا على مواجهتها، وكان النظام كله قادرا على تصحيح نفسه، حيث لا يطلب من النظم أكثر من هذه القدرة على التعامل مع نواقص النظم. وحتى عندما تم ضرب أبراج مركز التجارة العالمى فى نيويورك فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١، فإن ذلك لم يكن ليقلب الدنيا رأسا على عقب، وكان ما جرى وجها آخر للعولمة اصطفت الدنيا شرقا وغربا لمقاومته فى صراع حضارات هذه المرة. وهكذا سارت الدنيا كلها خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين؛ أما العقد الثانى فإن مشاهده كانت مزعجة بآثار أزمة مالية قادحة؛ بقدر ما كانت مفجعة فيما انتهت إليه الحرب ضد الإرهاب الذى لم يترك حاضرة عالمية إلا ومسها بدخان ونار. ومع قرب انتهاء العقد فإن النظام العالمى كله بات على شفا الانهيار، مع الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، ووصول نظم يمينية وشوفينية للحكم فى بولندا والمجر، بينما وصلت أحزاب مثلها بمقاعد كثرة فى باقى البرلمانات الأوروبية، وقبل أن ينتهى العقد كانت حرب باردة جديدة قد ولدت!.
الحرب الباردة تعبير أضافه جورج كينان إلى قاموس العلاقات الدولية؛ وهو نظام للحرب الضروس الذى تمنع الأسلحة النووية وحدها تحوله إلى حرب ساخنة، ولكن قبل وبعد ذلك فإن كل الأمور مسموح بها؛ ولا بأس أن تكون السخونة سانحة بالوكالة أو بالصراحة فى مسارح الجنوب. المفهوم يتضمن تناقضات أساسية فى المصالح، والرؤية للعالم، والصراع على مناطق النفوذ، وسباق للتسلح؛ وفى تاريخ الحروب الباردة قبل الحرب العالمية الثانية فإن ذلك يضاف له الحروب التجارية. المشاهد المتتابعة على المسرح الدولى ترسم صورة لحرب باردة جديدة لم تعد تجتمع فيها روسيا وأمريكا على الحرب ضد الإرهاب الدولى، ولا تجلسان سويا للتفاوض مع إيران لمنعها من بناء أسلحة نووية، وتنظر فيها الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى الناحية الأخرى عند دخول القوات الروسية إلى جورجيا أو إلى القرم، وفى كل الأحوال فإن الجميع يجتمعون على موائد منظمة التجارة العالمية. وفى هذا الخضم الجديد فإن أحدا لا يستطيع تحديد متى بدأت الحرب الباردة الجديدة على وجه التحديد؛ التاريخ ربما يسجل دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا وسوريا كبداية؛ أو عام ٢٠١٦ عندما بدأت أول حرب «سبرانية» فى التاريخ عندما بات محسوما أن روسيا نجحت بوسائل إلكترونية فى قلب الانتخابات الأمريكية لصالح المرشح دونالد ترامب الذى كان يشيد بروسيا وإمكانيات التفاهم مع رجلها «القوى» فلاديمير بوتين. أو أن الحرب بدأت عندما قام الرئيس الروسى، ومن بعده الرئيس الأمريكى، فى إشهار ما توصل إليه كلاهما من أسلحة جديدة لم يكن لها مكان إلا فى أفلام الخيال العلمى. أو أنها باتت حقيقة عندما جرت محاولة اغتيال جاسوس روسى سابق مع زوجته فى بريطانيا، وما نتج عنها من أزمة دبلوماسية جرى فيها طرد الدبلوماسيين بالتبادل بين روسيا فى ناحية و٢٤ دولة أوروبية ومعها الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب. وأضاف دونالد ترامب إلى التوترات السياسية، وأزمات الجاسوسية، شن الحرب التجارية عندما فرض الضرائب والرسوم التجارية على واردات الصلب والألومنيوم، وفرض على الواردات الصينية ما يكفى لخسارة الصين ٦٠ مليار دولار. فى قرار واحد، كان ترامب يضرب فى قلب العولمة، وفى الصميم.
وفى الحقيقة أن العالم لا يعلم أبدا متى بدأت مرحلة من التاريخ، وبالتأكيد متى تنتهى، وربما ليس مهما إذا كنا نعلم متى بدأت الحرب الباردة الجديدة، ولكننا نعرف أنها بدأت، والمهم فى ذات اللحظة أن نعرف أن التاريخ لا يعيد نفسها، وهناك دائما جديد تحت الشمس، حتى لو بدا أن الأشكال متشابهة، وما أشبه الليلة بالبارحة، فهناك دائما ما يجعل المشاهد الجديدة جديدة بالفعل. روسيا لم تعد كما كانت، فهذه المرة لا تبدو الدولة الروسية تعبيرا عن أيديولوجية عالمية بديلة؛ ولا يوجد فى قاموس «بوتين» شيء لا عن الاشتراكية ولا الشيوعية ولا حتى أحاديث كثيرة عن العدالة. والأرجح أن الولايات المتحدة هى الأخرى لم تعد كما كانت، ولا أحد يمكنه أن يحكم على ما إذا كان «ترامب» هو ظاهرة عارضة ومؤقتة، أم أنه حالة دائمة ربما تصل قدراتها على كسر العولمة ليس فقط فى العالم، وإنما فى الولايات المتحدة نفسها. وعندما تمكن الرئيس «شي» فى الصين من تعديل الدستور لكى يحكم مدى حياته؛ فإن ترامب أشاد بذلك قائلا متمنيا أن الولايات المتحدة ربما تفكر فى تجربة ذلك قى يوم من الأيام!!.. أصبح التاريخ سريعا بسرعة أكثر مما نتصور، وبينما كان الفارق بين الثورات الصناعية قرونا، فإنها باتت عقودا بعد الحرب العالمية الثانية، والآن فإن الفارق بين الثورة الصناعية الثالثة القائمة على المعلومات؛ والثورة الصناعية الرابعة القائمة على الذكاء الاصطناعى لم تزد عن عقد واحد.
كيف نتعامل مع هذه الظواهر الجديدة حتى ولو كان بعضها قديما قدم الحرب الباردة والحروب التجارية؟ ولا يوجد أمامنا إلا أن نسجل حقيقتين: الأولى هى أننا لا نستطع التحكم فى الكون، ولكننا نستطيع المراقبة، والمتابعة، وتجنب المخاطر بقدر المستطاع، وانتهاز الفرص عندما تسنح. وفى كل الأحوال فإن للكون ربا يحميه. والثانية أننا نملك إرادتنا التى يمكننا استخدامها لبناء كل عناصر القوة المختلفة والتى نملكها بالفعل بقدر ما لدينا من بشر ومن حجر، ومن نهر وبحر. ولدينا محيط قريب ربما يمكن إقناعه بأن الظروف الدولية والإقليمية تفرض علينا خلق سوق أكثر اتساعا من كل طرف منا منفردا، وعمقا إستراتيجيا أكبر من كل دولة وحدها.. هل وصلت الرسالة؟!.
نقلاً عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع