بقلم: عبد المنعم سعيد
رد الفعل العربي على خطة السلام الأميركية أو ما سُميت «صفقة القرن» ممثلاً في قرارات جامعة الدول العربية، ومن بعدها منظمة المؤتمر الإسلامي، وردود الفعل الفلسطينية المختلفة سواء جاءت من رام الله أو من غزة، كانت طبيعية ومتوقَّعة بكل ما فيها من حرق الأعلام والصور والدوس عليها بالأقدام والأحذية. ولا يختلف أحد على أن المبادرة الأميركية الجديدة تخالف القانون الدولي في كل ما يتعلق بإدارة البلدان المحتلة، والقرارات والاتفاقيات السابقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ والحقيقة أن ذلك ليس حالة خاصة بنزاع بعينه، فالأمر ينطبق على الكثير من النزاعات الدولية الأخرى. أكثر من ذلك فإن السير في طريق المزيد من القرارات الدولية التي تصدر عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية فإنها حتى لو اجتازت عقبة «الفيتو» الأميركي بتسجيل موقف الأغلبية، فإن الحقيقة الواقعية هي أن القرارات سوف تضاف إلى قرارات سابقة. الدعوة إلى «الكفاح المسلح» من فصائل فلسطينية، وعربية أيضاً، ليس متوقعاً على ضوء التجارب السابقة، لن تضيف الكثير إلى الواقع الفلسطيني؛ وعلى العكس سوف تضيف ساحة إضافية للعنف في منطقة أعيتها التدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية، والحروب الأهلية، والانتفاضات الشعبية، والحركات الإرهابية، وجنازات الضحايا وقوافل اللاجئين والنازحين. الساحة الفلسطينية ذاتها ليست في أفضل حالاتها، فالانقسام الفلسطيني بين السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية ومنظمة «حماس» وتوابعها في قطاع غزة من العمق بحيث تظهر محاولات السعي إلى المصالحة كما لو كانت سيراً دائماً في طريق سراب دائم. المسألة برمّتها تحتاج إلى مقتربات جديدة، وربما كانت أهم إنجازات الكفاح الفلسطيني جاءت من خلال مقترب أوسلو الذي لعب فيه الرئيس أبو مازن مع يوسي بيلين دوراً جوهرياً في إنجاز أول اتفاق أعطى للشعب الفلسطيني كياناً سياسياً وسلطة وطنية. وللأسف الشديد فإنه لم تتم المحافظة على منجزات «أوسلو» بسبب التشدد والأطماع الإسرائيلية المتوقعة من جانب؛ والجهود التي قامت بها «حماس» لنسف الاتفاق بالعمل المسلح في أوقات التفاوض ثم الانتفاضة الفلسطينية المسلحة من جانب آخر.
على أي حال، فإنه بمراجعة تاريخ القضية الفلسطينية سوف تجد الكثير من الذنوب التي تكفي الجميع، وما لدينا من خطة سلام أميركية هي لحظة اختبار أخرى على طريق لحظات واختبارات أخرى جرت خلال تاريخ الصراع الذي كان جوهره توازن القدرة على فرض الحقائق على الأرض والتي خرجت فيها دوماً إسرائيل فائزة منذ ظفرت بالوعد حتى أقامت الدولة، ومن بعدها تحولها إلى إمبراطورية صغيرة. ما نجح الفلسطينيين في الظفر به كان أمرين: إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية لأول مرة في التاريخ على أرض فلسطين؛ ووجود شعب فلسطيني تعداده أكثر من ستة ملايين نسمة على الأرض الفلسطينية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. الحفاظ على هذا الواقع وتطويره لا يساعده كثيراً رد الفعل الحالي على المبادرة الأميركية الظالمة، لأنها أولاً لا تعطي بالاً ولا تعترف بأن الفلسطينيين قدموا تنازلاً ضخماً عندما قبلوا بالتفاوض والاتفاق على 22% من أرض فلسطين. وثانياً أنها أخذت الأمر الواقع الظالم الذي أقامته إسرائيل نقطة الانطلاق في مبادرتها الحالية، فكان نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، كما كان القبول بضم المستوطنات الإسرائيلية وغور الأردن إلى إسرائيل.
رغم ذلك كله فإنه من وجهة النظر العربية، وما لم نكن نرى متعة في الحصول على المزيد من القرارات الدولية، فإن النظر إلى خطة السلام الأميركية بوصفها إطاراً للمفاوضات في حاضنة عربية لديها قدرات تفاوضية أكثر من التصويت في المحافل الدولية لصالح القضية الفلسطينية. ولعل المقابلة التي جرت في أوغندا بين الرئيس السوداني ورئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخراً تشير إلى أن الدول العربية لديها مصالح حيوية تخصها لا يمكن تجاهلها انتظاراً لزمن تُحل فيه القضية، وتأتي فيه مصالحة لا تأتي أبداً. السير في طريق المفاوضات وفق ما يصير «جدول الأعمال» المطروح يعطي الفلسطينيين الفرصة لتحسين الكثير من شروط الخطة الأميركية. وسوف يضع الفلسطينيين في ظروف تفاوضية أفضل أن تتصرف السلطة الوطنية الفلسطينية بوصفها بالفعل دولة من خلال الاحتكار الشرعي للقوة المسلحة، حيث لا يجوز وجود الدولة مع ميليشيات مسلحة أخرى. وفي هذه الحالة فإن مطلباً فلسطينياً الآن بوقف إجراءات الضم لغور الأردن والمستوطنات لحين الانتهاء من المفاوضات سوف يكون مؤيداً للطلب الأميركي المماثل من إسرائيل. كما أن طرح اعتبار موضوع «غور الأردن» قضية مفتوحة للأمن سوف يكون مختلفاً عن اعتبارها من مقتضيات السيادة الإسرائيلية، لأن السلام هو قضية ديناميكية أدت إلى رفع قيود البروتوكول الأمني في سيناء بعد أن استقر السلام على مدى أربعين عاماً.
الفلسطينيون يمكنهم الاستفادة كثيراً من قبول إسرائيل والولايات المتحدة قيام الدولة الفلسطينية، ووقف التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وتحسين الشروط الخاصة بالقدس بإنشاء مجلس فلسطيني إسرائيلي لإدارة المدينة ومواصلاتها وبنيتها التحتية حتى ولو كان الوجود الفلسطيني في أطرافها. ببساطة فإن هدف المفاوضات هو تحقيق المزيد من المرونة والقدرة على تفعيل الدولة الفلسطينية خصوصاً إذا ما تم توقيع اتفاقيات مشروعات الوصل الخاصة بغزة التي سوف تفتح للسلطة الوطنية الفلسطينية مجالاً للوصول إلى البحر المتوسط واستغلال الغاز الفلسطيني فيه، فضلاً عن الأنفاق والجسور التي تربط بين أجزاء الدولة المختلفة. هنا فإن مطار غزة وميناءها يعطيان مرونة كبيرة لحركة الدولة الفلسطينية في جذب الاستثمارات ومن ثم وقف الهجرة الفلسطينية إلى الخارج. ترسيم الحدود البحرية بين فلسطين من ناحية وإسرائيل ومصر من ناحية أخرى سوف يعطي الشخصية الدولية الفلسطينية في إطار منتدى شرق البحر الأبيض تفعيلاً إضافياً يحميها من الضغوط الإسرائيلية.
هذا طرح لمقترب آخر من الخطة الأميركية الممتلئة بالعيوب، ولكنها في كل الأحوال تفتح طريقاً لا يفتحه الوضع الراهن الذي يتعمق فيه الانقسام الفلسطيني، وتتسرب من بين أصابعه الطاقات العربية، ويتلاشى فيه الاهتمام الدولي. فالواقع أن القضية الفلسطينية لا تجري وقائعها في فراغ لا تاريخي ولا جغرافي، وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور في العالم ولإقليم الشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها. ويبقى أن المطلوب ليس فقط أفكاراً ومقتربات وإنما استراتيجية تفاوضية متكاملة وتنسيق عربي شامل يدفع بالمبادرة العربية إلى المائدة، ويعطي الطرف الفلسطيني دعماً وطاقة معنوية ومادية بقدر ما يطرح على الطرف الإسرائيلي خياراً تاريخياً مهماً بين الإمبراطورية والعضوية في الإقليم والاستفادة من أسواقه، ومحاربة أعدائه. المفاوضات في الحقيقة عملية ديناميكية صعبة تحتاج إلى الكثير من النضج والتحضير للبيئة التفاوضية بقدر ما يتم فيها إعداد المفاوضين. وفي النهاية فإن الغضب الفلسطيني الحالي يمكن تفهمه، ولكن بمراجعة الأحوال كما هي قائمة ربما تستخلص الدروس الماضية أن الغضب لا يكون هو الحل للمشكلات المستعصية، وأن المسؤولية عن فلسطين لا بد أن تكون شاملة للفلسطينيين أيضاً.