بقلم - عبد المنعم سعيد
هناك فى مصر قائمة طويلة من القضايا الموسمية، أى تلك التى يجرى الحديث عنها، والإعلانات بشأنها، ثم يخفت الأمر كله والإلحاح عليه حتى يمر زمن، وبعد أن تظن الموضوع قد ذهب إلى غياهب النسيان إذا به يستيقظ من جديد، متحديا وملحا. هى دورة لابد منها أشبه بتغير الفصول التى تلم بالسنة، ونتغير معها فى سلوكيات بعينها حول ما نأكل ونلبس ونسكن فى الشتاء والربيع والصيف والخريف. هل أتاك حديث القمامة يوما وكيف يدور فيه التأكيد على أنها ذهب خالص، ولا تنسى أن النظافة من الإيمان،
أو يكون القول عن الزحام، ومعه الزيادة السكانية فإن الأمر يبدو كما لو كان مثل طائر العنقاء أو الخل الوفى فى الأساطير القديمة. الجديد فى حياتنا خلال السنوات القليلة الماضية أن بعضا من هذه الملفات جرى فتحها مثل التعليم والصحة، ولكنه فتح ليس بالضرورة يحل المشكلة لأن عناصر كثيرة فيها تريد بقاء الأمور على ما هى عليه، فالمدرسون يريدون استمرار الدروس الخصوصية، والأطباء لديهم معضلة التأمين الصحى،
أو الإصلاح الذى يقلل من دخولهم الحالية. القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد واحد من هذه القضايا الموسمية، وهو ذلك المجهول الذى لا يعرف أحد على وجه التحديد ما الذى يمثله بالنسبة للاقتصاد المصرى، فقبل نهاية القرن الماضى كان التقدير حوالى ٣٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى، وما إن دخلنا إلى القرن الحالى حتى أصبح ٤٠٪، وقبل أيام ذكر وزير المالية أن نسبته ٦٠٪. وعندما تكون المعلومة حول أى من الموضوعات تتراوح ما بين ٣٥٪ و٤٠٪ و٦٠٪، فمعنى ذلك أننا لا نعرف شيئا على الإطلاق. الغريب فى هذا الأمر أن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى زمن إدارة الصديق العزيز أبوبكر الجندى له أجرى إحصاء للمنشآت الاقتصادية فى مصر تصورت أنه سوف يكون القول الفصل فى الموضوع، ليس فقط فى نسبته إلى الناتج المحلى، وإنما أين يقع، وما هى نوعيات السلع التى ينتجها، وما الذى فيه متناهى الصغر، وما الذى يدخل فى عداد الشركات المتوسطة؟ إلى أى حد جرت الاستفادة من هذا التعداد، واستخلاص السياسات اللازمة لإدماجه فى الاقتصاد القومى هى مسألة علمها عند الله.
وفى الحقيقة أنه أيا كانت نسبة القطاع غير الرسمى فإنها تجعل حجم الاقتصاد المصرى بأكبر كثيرا مما نتصوره الآن. فالتقديرات الدولية تقول إن الناتج المحلى الإجمالى المصرى مقوما بالقدرة الشرائية للدولار يتعدى تريليون وثلاثمائة مليار دولار، أما إذا كان التقدير حسب القيمة الإسمية، فإن الناتج المصرى يقل عن ٣٠٠ مليار دولار. أيا ما كانت طريقة الحساب، فإن ضم نسبة تتراوح ما بين ٣٥٪ و٦٠٪ تضعنا أمام تحد كبير وهو أننا فى الواقع نقيم السياسات الاقتصادية على أساس ما نعرفه عن الاقتصاد الرسمى بكل ما يؤدى إليه ذلك من أخطاء فى الحساب. والأخطر أن كثيرا مما نعرفه يصبح غير معبرا عن الحقيقة، فالشائع مثلا أن القطاع الخاص يساهم بما يعادل ٦٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى و٧٤٪ من اليد العاملة. مثل هذه النسب لا تعبر عن الحقيقة أيا ما كانت نسبة القطاع غير الرسمى الذى هو بالضرورة لابد وأن يكون خاصا، لأنه لم يعرف فى التاريخ بعد أن هناك شركات عامة وغير رسمية فى نفس الوقت، مثل ذلك سوف يمثل تناقضا فى المفاهيم ما بين العام والخاص. وما يجعل الأمر أكثر تعقيدا فى ذلك المجهول المسمى الاقتصاد غير الرسمى أنه لا يبقى على حاله، فلابد أن فى داخله عمليات مستمرة للإحلال والتبديل، أو بمعنى آخر الدخول إلى السوق والخروج منها لأنه يتأثر بتغيرات السوق والتكنولوجيات المؤثرة فيها. ورغم أن الشائع عن الاقتصاد غير الرسمى أنه يعتمد على تكنولوجيات بدائية، أو أنه يمثل مصانع «بير السلم»، فإن هناك أيضا شركات «ناشئة» فى البرمجيات التى تتعامل مع الواقع الاقتصادى المصرى ولا نعلم عنها إلا بعد أن يتم بيعها إلى الشركات العالمية العاملة فى هذا المجال أو ذاك.
وبدون الدخول فى كثير من الأرقام والتناقضات الواقعة فيها فإن الثابت هو أن لدينا قطاعا غير قليل يقع خارج الاقتصاد المعلوم فى مصر، وعندما نضع حساباتنا حول الاستيراد والتصدير، وسعر العملة، والدولار الجمركى، وأسعار الفائدة على الودائع فإننا نكون مثل الأعمى الذى يحاول قياس مكعب الثلج بينما يذوب بين أصابعه نتيجة الحركة فى أسواق الاقتصاد غير الرسمى. وفى الظن أن الاقتراب من هذه القضية لا يكون إلا بالتعامل معها على المستويات المحلية المختلفة سواء كان ذلك على مستوى القرية أو الحى أو المدينة أو المحافظة. فعندما تصغر الوحدات الاقتصادية فإن استكشاف أهمية اقتصاد بعينه تصبح إمكانياتها أعلى بكثير من التعامل معها على المستويات الوطنية الكلية، ولعل ذلك كان من أسباب التأخير فى الإحاطة بحقائق الاقتصاد غير الرسمى ليس بما فيه من مشروعات صناعية أو زراعية أو خدمية وإنما أيضا فيما يعد من قيم الأصول العقارية غير المستخدمة، فما هو غير رسمى ليس فقط غير المسجل فى أوراق رسمية والذى لا يوجد لديه بطاقة ضريبية، فربما كان الأكثر واقعية هى أنه يمثل قيمة ثروة لم تدخل السوق الاقتصادية بعد على جانبى العرض والطلب. المهم فى هذه المسألة كلها أن التنظيم الإدارى المصرى غير مؤهل للتعامل مع هذا الموضوع، كما أن القيادات التى يمكنها التصدى له ليس لديها لا الأدوات، ولا الخبرة التى تجعلهم يقتربون من الموضوع لاستيعابه داخل الاقتصاد الرسمى. ومع ذلك فإن قضية بهذا الحجم يشكل تركها جانبا خسارة كبيرة للاقتصاد القومى سواء إذا كنا نريد زيادة معدلات النمو، أو التعامل مع قضايا التشغيل والتضخم، أو حتى إقناع المؤسسات المالية الدولية بدمج الاقتصاد غير الرسمى مع الاقتصاد الرسمى فى عملية تقييم الاقتصاد المصرى. هو أمر على أية حال يضاف إلى سلسلة من الموضوعات المعلقة فى واقعنا مثل الشركات المتعثرة والأخرى المعطلة والثالثة التى سوف تدخل الصندوق السيادى الكبير. هذا زمن التعامل مع القضايا الكبرى، فليكن ذلك على كل الجبهات!
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع