بقلم - عبد المنعم سعيد
خمسة وأربعون عامًا من الكتابة الصحفية، كلها دارت حول فكرة وحيدة، لا أظن أننى حِدْت عنها يوما، وهى أن تكون مصر جزءًا من عصرها لا تزيد، ولا تنقص. العصر يقوم على حزمة كبيرة من القيم والقواعد التى تنقل البلدان من حال إلى آخر، وباختصار من التخلف إلى التقدم دون اختراع جديد للعجلة التى جرى اختراعها منذ وقت طويل.
وللحق فقد كان للمقاومة لهذا المنطق منطقها الخاص الذى قام على أفكار «الخصوصية» أحيانا، والطريق الثالث أحيانا أخرى، وأن هذا هو سبيلنا، ونحن أولى به، ولا أحد يعلم من لديه سبعة آلاف عام من الحضارة شيئا جديدًا. لحسن الحظ أن مثل هذه الدعوات خفتت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، بات واضحا أننا لا نتقدم كثيرا، وأن سيرنا سير السلحفاة، وأنه لا مفر من سؤال العالم كيف نفعلها، وعندما يجيب قد يكون هناك تململ من «روشتة» الصندوق، ولكن تحملها كان ممكنًا. هذه مفاجأة مثيرة لأن التخلص من تراث طويل من التخلف ليس بالأمر السهل، وخاصة فى الحالة المصرية التى وصل الحال بها إلى أن التخلف بات موضعا للبهاء والفخر. هذه ليست قضيتنا على أى حال، فهناك عدة مفاجآت مثيرة أخص منها اثنتين لهما صلة بالقضية العامة التى تجعل مصر جزءًا من عصرها، أولهما أن معالى وزير قطاع الأعمال هشام توفيق أعلن أننا سوف نغلق «الشركات الفاشلة»، وأننا لن نكرر سيناريو الدخول فى خسائر لمدة ٢٠ عامًا، ولا بد أن يكون لدينا شجاعة اتخاذ قرار التصفية، وفى إشارة من تلك التى يفهما «اللبيب» أنه بالمناسبة فإن سعر طن الخردة يصل إلى سبعة آلاف جنيه، فى إشارة واضحة أن قيمة بعض مصانع القطاع العام من الخردة أفضل كثيرا من قيمتها كوحدة اقتصادية. المفاجأة المثيرة الثانية هى أنه تمت عملية حصر أملاك «الأوقاف» حتى عرفنا أن قيمتها تريليون وسبعة وثلاثون مليارا من الجنيهات، أما عائدها، فهو مليار ومائتا مليون جنيه. ولما كان التريليون هو ألف مليار، والمليار ألف مليون، فإن العائد لا يزيد على ١٪ من القيمة تقريبا.
لماذا يعد حديث وزير قطاع الأعمال العام مفاجأة مثيرة؟ ولماذا كان حصر أموال الأوقاف مفاجأة مثيرة أيضا؟ فإن ذلك يعود أولا إلى أنه على مدى العقود الماضية بات من الأمور المتعارف عليها مع تولى كل وزير جديد لقطاع الأعمال أن تكون بدايته فيها الكثير من الوجل والتردد من استخدام كلمة «الخصخصة»، باعتبارها نوعًا من الشيطان الرجيم، والأخطر كان العمل على بقاء ذات القطاع العام من خلال عملية تعرف بعملية «إعادة الهيكلة» التى تنتهى فى معظم الأحوال بعد تكلفة موجعة ببقاء الأوضاع على ما هى عليه، أو تدهورها وتراكم الخسائر فيها.
ولما كنت قد حذرت طويلا من أن ذلك النتيجة الطبيعية لحالة القطاع العام لدينا، فإن الاستعداد للتصفية هو البداية الصادقة للتعامل مع الموضوع. المعضلة فى هذا الأمر والتى أرجو أن يراجعها معالى الوزير أن القطاع العام كالمرض «الخبيث» قادر دائما على «التحول»، واختراع الأسباب ووضع العقبات، فهناك شركات تحت التصفية لمدة ثلاثة عقود تقريبا، بها موظفون وعمال وأصول لها تكلفة، وكلهم باقون دون إنتاج أو عائد. وثانيًا أن الدهشة والمفاجأة فى الحقيقة هى أننا لم نكن نعرف أملاك الأوقاف فى مصر حتى جرى حصرها، وهذه مفاجأة فى حد ذاتها، ولكن أن نأتى متأخرين أفضل من ألا نأتى على الإطلاق، وطالما عرفنا أن لدينا مثل هذه الثروة فإن السؤال يبقى ماذا سوف نفعل بها؟ هذه حالة نقية وصفية لإدارة ثروة محددة طائلة يكمن فيها ما يقارب ثلث الأموال الموجودة فى البنوك المصرية جمعاء، وإجمالى حجم الموازنة المصرية فى عام. وفى علوم الانتقال من التخلف إلى التقدم فإن إدارة الثروة، وليس إدارة الفقر هى المفتاح لكى تصبح مصر جزءًا من عصرها.
صديقى الدكتور أحمد جلال طرح مؤخرا فى مقال نشر فى «المصرى اليوم» ما يضع قضية القطاع العام والأوقاف المصرية فى نطاقها الصحيح. هو من ناحية يرحب ترحيبًا شديدا بالجهد المبذول لجذب الاستثمارات الأجنبية؛ ولكنه فى ذات الوقت يطرح أمرًا بالغ الأهمية وهو حالة الاستثمارات القائمة بالفعل، حيث يجدها أولا أن حالتها التشغيلية أقل، وأحيانا أقل بكثير إنتاجًا وعائدا مما يجب؛ وثانيا أنها لا تلقى الاهتمام الكافى الذى يلقاه البحث عن استثمارات جديدة.
هنا تجتمع أمور عديدة مع بعضها، فلدينا قضية المصانع المتعثرة، وهذه حارت الأقوام فى عددها الدقيق، ولكنها كثيرة وكفى؛ وهناك قضية المؤسسات المعطلة للقطاع العام وهذه تشكل نزيفًا للاقتصاد القومى والموازنة العامة؛ وهناك قضية الهيئات العامة التى يفترض أنها إن لم تضف إلى القدرات الاقتصادية، فإنها ترفع الأعباء عنها، ولكن الحقيقة هى أنها لا تضيف، ولا ترفع، وهناك قضية الأصول السيادية المعطلة والتى أخيرا، وربما كانت هذه هى مفاجأة مثيرة أخرى، بدأت تجد لها حلا فى شكل الصندوق السيادى. كل ذلك مجتمعًا يشكل ثروات قومية كبيرة تبحث عمن يديرها ويستفيد منها، ويفيد منها الوطن كله. هى ببساطة جزء مهم من تعبئة الطاقات الوطنية التى تأخذ الدول لكى تعيش عصرها.
المهمة صعبة، ولا شك، ولذلك كانت الحكومات والقيادات السياسية والاقتصادية ورجال الأعمال ووسائل جذب الاستثمارات التى تحول المعطل إلى مشتغل، والمتعثر إلى منتج، والمستورد إلى مصدر. هذا بالتأكيد ليس بديلًا عن الاستثمارات الأجنبية، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص المصرى على النشاط، وتعبئة الموارد المحلية فى المحليات، فالدخول إلى العصر له ثمنه وتكلفته، وتحقيق معدلات نمو مرتفعة تبدأ من ٨٪ لا يتحقق ما لم تكن هناك إدارة رشيدة وشجاعة للثروات الوطنية على تعدد أنواعها وأشكالها واتساع نطاقها. ولذلك، أيها السادة، لا تنتظروا كثيرا، ولا تتأخروا طويلا، ولا تعتقدوا أن مشروعًا جديدًا ربما يكون أفضل وأسرع من النظر إلى ما كان، فمصر تحتاج كل ثرواتها أن توضع على طريق الاستثمار.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع