بقلم - عبد المنعم سعيد
«الربيع» هنا ليس له علاقة بفصول السنة الأربعة، ولكنه تعبير عن خروج الناس إلى الشوارع للاحتجاج على أمر ما، وعندما جاءت «الثورات» إلى تونس ومصر وغيرها من الدول العربية بين عامى 2010 و2011 سُميت «الربيع العربى». وكان فى الأمر استعادة لنفس النوعية من الخروج فى صيف عام 1968 عندما خرجت الجماهير فى «براغ» احتجاجاً على الحكم الشيوعى والهيمنة السوفيتية. أيامها انتهت القصة كلها بدخول الدبابات الروسية إلى العاصمة التشيكية، وأصبح «ربيع براغ» دامياً كما حدث فيما بعد لربيع العرب الذين انتهت قصتهم بالتطرف الدينى والإطاحة بنظم سياسية والحرب الأهلية. كل أنواع الربيع من هذه النوعية لم تنتج زهرة، ولم تطلق عطراً، ولم تأتِ منها نسمة هواء عليل، وإنما كانت النتيجة مئات الألوف من القتلى، وملايين من الجرحى، وملايين أكثر منهم من اللاجئين والنازحين تركوا وراءهم مدناً مدمرة وآثار حضارات محروقة. اليوم خرجت، وفى فرنسا هذه المرة، عشرات الألوف من الفرنسيين للاحتجاج خلال الأسابيع الماضية، رافضة فرض ضرائب على الوقود، أو لتدهور أحوال العاملين فى سيارات الإسعاف. وكما هو الحال فى الربيع المُحمَّل بعواصف رملية وخماسين ساخنة، جاءت مع الخروج اشتباكات مع الشرطة، وحرائق فى السيارات الخاصة والعامة، وتخريب فى «قوس النصر» الشهير. فى الحالة العربية وصلت شهرة «ميدان التحرير» إلى عنان السماء، أما فى الحالة الفرنسية فقد جاءت الشهرة السلبية إلى شارع «الشانزليزيه». ما جمع الجميع فى كل الميادين والشوارع كان الخروج الجماهيرى الكثيف، والاحتجاج، والحشد عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى، وغياب القيادة، ومعها الهدف والسياسة.
التفسير الشائع للربيع العربى كان ذيوع الاستبداد وعنف الأمن وغياب الديمقراطية وعنف الإخوان وتوابعهم وتجريف الحياة السياسية، ولكن فى فرنسا جاء الخروج الشعبى فى حضور الديمقراطية والليبرالية ورئيس شاب منتخب- ماكرون- استخدم الآليات المنتخبة لكى يقرر سياسات مالية ونقدية. الفرضية التى قام عليها «الربيع الفرنسى» أن يحل الشارع مكان المؤسسات من برلمانات وأحزاب وجهاز حكومى فى تقرير السياسات العامة. التفسير جاء أن فرنسا بلد قلق، ففيه جرت أعنف الثورات فى التاريخ، فكانت الثورة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر، وثورة «كميونة باريس» فى منتصف القرن التاسع عشر، وبعدها حتى منتصف القرن العشرين تقلبت خمسة أنواع من الجمهوريات، ونجحت «حركة الطلبة» فى عام 1968 فى الإطاحة بديجول، بطل فرنسا فى الحرب العالمية الثانية، قائد الجمهورية الخامسة. التفسير الأكثر شيوعاً هو حدوث أزمة فى الديمقراطيات الغربية، والتراجع فى الحالة الليبرالية فى الدول المتقدمة. انسدّت أدوات التواصل بين الساسة والشعب، ولم تصل مؤسسات التدبير والتقرير إلى نتيجة، ومن كثرة الإعلام لم يعد فى الأمر حوار، ولا تواصل اجتماعى، وإنما أنواع مختلفة من الضجيج الذى يحتاج إلى ضجيج آخر أعلى صوتاً وأكثر عدوانية. المسألة ليست فرنسية فقط، وإنما جرت فى بلدان غربية كثيرة، الفارق أنها أخذت أشكالاً متعددة من الحماقة، فكانت الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، وجاءت بحكومات يمينية فى بولندا والمجر، وأحضرت أحزاباً شبه فاشية بقوة إلى برلمانات ألمانيا وهولندا وإيطاليا وحتى السويد، أما فى الولايات المتحدة فقد وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. الفارق فى فرنسا أن الحالة جاءت بارتفاع أسهم الجبهة الوطنية على اليمين، أما الربيع الأخير الذى جاء مع مطلع الشتاء فقد أخذ المسألة كلها إلى اليسار!
الصورة هكذا مغايرة تماماً لما كانت عليه الأحوال الغربية مع مطلع القرن الجديد عندما كانت الديمقراطية الليبرالية الغربية ممثلة لنهاية متعجلة للتاريخ، بل إنها باتت مقياس الحكم على دول العالم، ومسار الانتقال المأمون للسلطة والثروة والإبداع. «ربيع باريس» ربما يكون شهادة جديدة على أن التاريخ لا يسير أبداً فى خطوط مستقيمة، وإنما هناك دائماً طرق متعرجة ومطبات حقيقية وصناعية وهوائية من كل الأنواع. «العولمة» الغربية تتعرض للاختبار على كل الجبهات، وبصفعات متعددة الأشكال، والأرجح أنها حالة لن تستقر فى المستقبل القريب حتى تتماشى التطورات التكنولوجية والصناعية مع القيم والمؤسسات السياسية. ربيع فرنسا ربما سوف يمر بطريقة أو أخرى، ومع كل ارتفاع فى درجة العنف فإنها سوف تحتوى على عزلة لشباب المتظاهرين والمخربين، تصحبها اندفاعة نحو اليمين المطالب بالأمن والنظام، وتبقى جماعات مبعثرة تجد فى الإرهاب ملاذاً ومأوى. ربيع الفصول ربما لن يأتى قريباً!
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع