لم تكن وفاة الرئيس الأمريكى الواحد والأربعين «جورج هيربرت بوش» الأسبوع الماضى حدثًا عاديًا، وإنما تداعت إلى المناسبة كل مظاهر الأحداث التاريخية التى تلم بالشخصيات العظيمة.
لم يكن ذلك لأن الموت اختطفه دون توقع، لأن الرجل وافته المنية، وهو فى سن الرابعة والتسعين، وبشكل ما فإنه ذهب إلى الموت بقدر ما جاء الموت إليه.
فمنذ توفيت زوجته فى إبريل الماضى بات الرجل زاهدا فى الحياة، وأصابه مرض عضال، وعندما ألمت به الأزمة الصحية الأخيرة، رفض الذهاب إلى المستشفى مقررا أنه آن أوان الرحيل.
ولم يكن ذلك الاحتفاء الكبير راجعًا لأن بوش الأب- تمييزا له عن بوش الابن الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة- كان رئيسًا عظيمًا؛ فقد وقع فى تلك المجموعة من الرؤساء التى قضت فترة رئاسية واحدة، وهزم فى الفترة الثانية من قبل شاب صغير وغرير، جاء من ولاية قليلة الشأن (أركنساس) وهو بيل كلينتون، عرف الانتصار عليه بشعار بسيط «إنه الاقتصاد يا غبى».
هناك بالطبع ما يجعل الاحتفال به مبررا بانتصاره فى حرب الخليج وتحرير الكويت؛ وكذلك لأنه كان واقفا على ذلك الجسر التاريخى الكبير لانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى مع مشهد التغيير الأكبر فى النظام العالمى. ولكن هذه وتلك كانت عملية تاريخية كبيرة بدأت بذورها مع رئيس سابق عليه هو رونالد ريجان؛ كما أنه لم يكن متصورا فى تحالف دولى عظيم، مثل الذى جرى تكوينه فى الحرب ضد صدام حسين أن ينتهى القتال إلى غير النهاية التى وصلت إليها.
أعتقد أن أسبابا أكثر أهمية جعلت الديمقراطيين والجمهوريين يلتفون حول جثمان الرئيس الراحل، وفى المقدمة منهم بيل كلينتون، وجاء إلى الجثمان الرئيس الحالى دونالد ترامب وزوجته ليلقى التحية على شخصيةٍ أطاح بابنها من الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهورى بعد حملة قاسية على كل ما ينتمى إلى «بوش» وعائلته. المشهد الذى جرى فى قاعة «الروتاندا» فى الكونجرس الأمريكى كانت رمزًا لانتهاء عصر وبداية عصر جديد، ما بينهما كان ربع قرن أو أكثر قليلا، وهو زمن قصير للغاية لتغير العصور إلى الدرجة التى جعلت الشهود على العصر الأول حاضرين جنبا إلى جنب مع شهود العصر الجديد.
كان هناك «جيمس بيكر»، وزير الخارجية الأمريكى، خلال عهد بوش الأول مهندس «النظام العالمى الجديد»، ومؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط، وبانى التحالف الدولى لتحرير الكويت.
وبينما كان الجثمان فى صندوقه كان دونالد ترامب جالسا أمامه ليقدم النقيض فى كل شىء لما انتهى إليه نظام دشن الطريق إلى «العولمة» والقيادة الأمريكية للعالم، ونهاية التاريخ إلى مآله الديمقراطى الرأسمالى الليبرالى الذى لا تاريخ بعده.
وبينما كان «بوش» الفقيد يمثل «الخبرة» التى يجلها الأمريكيون، ويأمل فيها بقية العالم، حيث كانت بطاقة تعريفه تشمل عضوية الكونجرس والسفارة فى الصين وقيادة الوفد الأمريكى فى الأمم المتحدة وقيادة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ومنصب نائب الرئيس لثمانى سنوات كاملة، فترامب يمثل النقيض لكل ذلك، فما كانت له خبرة من أى نوع فى العمل السياسى، وإنما جاء إلى السياسة من النافذة الإعلامية، وقد استخدمها بكم هائل من «السوقية» و«الشعبوية» التى لم يعرفها بوش فى حياته، وعندما أصبح فى البيت الأبيض كان «ضد العولمة» تمامًا، ومتوجسًا من التحالف الأطلنطى، وساعيًا إلى أنواع مختلفة من العزلة عن الأمم الأخرى.
لم يكن ترامب هو النقيض الوحيد، فقد كان على الحاضرين حول جثمان الرئيس الراحل ليس نعيه وحده، وإنما نعى فترة من الزمان جرت فيها أكبر عمليات التغيير فى الدنيا دون إراقة نقطة دم واحدة.
سقط الاتحاد السوفيتى دون حرب، ودون طلقة، ودون استخدام للسلاح النووى، وأكثر من ذلك كانت روسيا على استعداد للقبول بوحدة ألمانيا، ودخولها إلى حلف الأطلنطى أيضا، وامتداد الاتحاد الأوروبى شرقا مع الحلف، بينما أصبحت موسكو عضوا فى مجموعة الدول الثمانية القائدة للاقتصاد العالمى.
كانت فكرة إدماج روسيا وشرق أوروبا فى النظام الأطلنطى مقدمة لما جرى بعد ذلك فى بقية العالم.
وكانت الولايات المتحدة على استعداد لكى تنقل نصف مليون جندى إلى الشرق الأوسط لكى تمنع صدام حسين من الاستيلاء على الكويت.
ولكن بوش الأب كان حكيمًا فقد أبقى ما هو أكبر من شعرة معاوية مع ميخائيل جورباتشوف، وكل النخب التى ظهرت فجأة فى دول حلف وارسو السابقة.
وعندما تم تحرير الكويت، فإن السؤال الأعظم كان: ثم ماذا بعد؟
هل تتقدم القوات الدولية إلى بغداد وتطيح بصدام حسين، أم يتم إعلان النصر وانتهاء المهمة بدخول القوات العربية إلى مدينة الكويت وترك صدام حسين للشعب العراقى لكى يقرر مصيره؟
هذا الاختيار الأخير هو ما كان، ومع الأيام ثبت خطل الاختيار الأول عندما قرر بوش الابن الرئيس الثالث والأربعون أن يكمل المهمة تحت راية المحافظين الجدد بغزو العراق، ليبدأ العد التنازلى لهدم كل ما بناه والده.
لم تعد العولمة الديمقراطية اختيارا تذهب الدول نحوه، وإنما يفرض عليها بقوة السلاح.
فى قاعة «الروتاندا» بالكونجرس الأمريكى كان يرقد الرئيس الراحل، بينما ينعاه الرؤساء اللاحقون، ويرثيه قادة دول العالم، ويبكيه معاونوه، ولكن الحرقة فى النعى والرثاء والبكاء كانت على عالم تعرض للنهاية بعد ربع قرن من بدايته.
كانت بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبى وبإرادة شعبية فى استفتاء عام.
وكانت الحرائق تنشب فى باريس التى طالها الإرهاب من قبل دون وجود أسباب مقنعة سوى الغضب.
وفى ظل كل ذلك كان هناك مئات الألوف القادمين من دول أمريكا الجنوبية يزحفون على أسوار عالية على الحدود الأمريكية المكسيكية، بينما كان الرئيس الأمريكى متهمًا بالوصول إلى الحكم نتيجة العون الروسى، فيصد الاتهام بحرب باردة جديدة مع روسيا ومعها الصين أيضا.
انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، ولم يقم «النظام العالمى الجديد»، ولا أحد بات يعلم ماهية «النظام العالمى» على أى حال، فذهبت «العولمة» وربما ذهب معها «النظام!» أيضًا.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع