بقلم: عبد المنعم سعيد
يبدو أن اتجاهاً آخر في طريقه إلى التكوين عند النظر فيما يمثله «كوفيد - 19» لعالمنا المعاصر، وعما إذا كان سيكون انقلاباً فيه رأساً على عقب، أو أنه سوف يكون مثل كل المحطات المهمة، والأزمات العنيفة، قادراً على تحفيز وتسريع اتجاهات قائمة بالفعل في المجتمعات والدول والأقاليم والعالم. ريتشارد هاس خبير العلاقات الدولية المعروف ورئيس مجلس الشؤون الخارجية الأميركي، كتب مقالاً في دورية «الشؤون الخارجية» بتاريخ 7 أبريل (نيسان) الحالي في عنوان يلخص التوجه كله يقول إن الوباء سوف يسرع من التاريخ، ولكنه لا يشكله؛ فليس كل أزمة هي نقطة تحول؟
وفي المتن، فإن هاس يمضي إلى القول إن «عالم ما بعد الوباء لن يكون مختلفاً جذرياً، على الأرجح، عن ذلك الذي سبقه. (كوفيد - 19) لن يغير الاتجاه الرئيسي للتاريخ العالمي بقدر ما سوف يسرع به. الوباء والاستجابة له كشفا ودعما الخصائص الرئيسية للجغرافيا السياسية الحالية. ونتيجة لذلك، فإن الأزمة الراهنة تعد بأقل من نقطة تحول، ولكن بأكثر من محطة على الطريق الذي كان يسافر فيه العالم خلال العقود الماضية». ولكن السؤال عند هذه الرؤية هو البحث عن تلك المتغيرات الأصيلة التي تعمل الآن، وسوف تعمل في المستقبل، وسوف تشكل الأزمة فارقاً في الأداء والكثافة والإلحاح وقوة الدفع في التعامل معها. البديهي أن الوباء شكل أزمة صحية من الطراز الأول الذي لا يهدد دولة أو إقليماً، وإنما العالم بأسره. ما كان سبباً في الأزمة، وربما كان سبباً في تفاقمها، أنه جرى استبعاد «الأمراض المعدية» وسريعة الانتشار من حسابات «العولمة»، التي ركزت أكثر على التجارة وحركة المال والاقتصاد في عمومه، وربما القيم أيضاً، والتواصل الاجتماعي أكثر، من هجوم ممالك أخرى من المخلوقات على الجنس البشري. وفي وقت بدت فيه «العولمة» ذاتها موضع تساؤل نتيجة الانحراف اليميني الذي جرى في العالم المتقدم خلال العقد المنصرم، فإنه حتى الشهر الرابع من الأزمة، فإن العالم ومؤسساته لم يمسكا بتلابيب المرض، وتحقيق التعاون الدولي لمواجهته.
الإشكالية هنا أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، فقد كانت إجابة «العولمة» على مشكلات التجارة العالمية هي إنشاء «منظمة التجارة العالمية» لكي تقيم وتنظم نظاماً عالمياً لحركة السلع والبضائع، وما يتبعها من أمور مالية وصحية. وفي البداية، فإن الصين وروسيا رأتا في ذلك ما يدفع إلى الشك، لأن المناصرين للفكرة كانوا الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة؛ ولكنها في النهاية دخلتا إلى المنظمة التي أعطت الفرصة لبكين لكي تتقدم الصفوف في التجارة الدولية. دخول روسيا إلى المنظمة لم يشكل فارقاً كبيراً معها لأسباب أن روسيا ما زالت تتصرف في الشؤون الدولية، كما كان الاتحاد السوفياتي السابق يتعامل معها. ولكن الطامة الكبرى جاءت من الغرب واليمين السياسي فيه، خصوصاً واشنطن، بعد وصول دونالد ترمب وتحديه لمنظمة التجارة العالمية وكافة الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها الولايات المتحدة، سواء مع خصومها أو حلفائها. إشكاليات هذا القدر من العولمة تمتد إلى منظمة الصحة العالمية، التي في غيبة قيادة عالمية بعد الانسحاب الأميركي من العالم، والتردد الصيني في تحمل تكاليفه، فإنها يقع عليها عبء إدارة الأزمات الصحية العالمية. دروس الأزمة في الكيفية التي تم بها انتشار العدوى من بلد إلى آخر، والجهود المبعثرة للبحث عن لقاح ودواء، والنماذج المختلفة للتعامل مع العزل الاجتماعي، واستمرار الحياة في الدول المختلفة؛ كل ذلك يجعل وجود آلية عالمية ضرورة لكل دول العالم بلا استثناء.
ولكن القضية ليست فقط في قضية وجودية مثل الصحة، وإنما في كل القضايا «الوجودية» الأخرى التي تمس الجنس البشري كله. فالحقيقة الثابتة هي أن الكرة الأرضية لا تعيش أفضل أحوالها، وأن عملية «الاحتباس الحراري» قد خلقت تغيرات مناخية حادة تعبر عن اختلالات يمكن مشاهدتها، ولكن من الصعب حتى الآن تفسيرها خارج إطار التعاون الدولي والقرارات العالمية لتحقيق أهداف عابرة لحدود الدول والأقاليم. المعضلة في تحقيق ذلك من الصعوبة بمكان، إن لم يكن في الأمر استحالة، بينما دولة مثل الولايات المتحدة خرجت من التوافق الدولي حوله في اتفاق باريس للمناخ، وهي الدولة صاحبة النصيب الثاني بعد الصين في تلوث الكوكب. «كوفيد - 19» ربما لن يدفع فقط في اتجاه التعاون الدولي في مجال الصحة، وأكثر من ذلك دعم منظمة الصحة العالمية، وإنما أيضاً دعم التنظيم الدولي في القضايا المماثلة مثل «الاحتباس الحراري» و«منع انتشار الأسلحة النووية»، وكلها لها علاقة ببقاء الكوكب وسكانه، وباختصار، فإن الجغرافيا السياسية الخاصة بها ليست بين الدول، وإنما بين الكواكب، وجغرافيتها في هذه الحالة كونية.
مثل هذه الأمور بات الضوء عليها كثيفاً بحكم الوباء والبلاء الذي ألم بالعالم خلال الشهور الماضية، ومع هذا الخطر، فإن «السيادة» على أراضي الدولة لم يعد لها معنى، بينما الدولة القومية عاجزة وحدها عن الدفاع عن مواطنيها، حتى ولو كانت الدولة عظمى. ما بات يهدد السيادة ليس الاستعمار، أو دول أخرى على الحدود، واتجاهات للهيمنة والسيطرة من قبل دول كبرى عالمية أو إقليمية، وإنما من قبل أنواع جديدة من التكنولوجيا أظهرت فوائد كبيرة أثناء معالجة الأزمة، ولكن وقوعها في يد «الإرهاب» الدولي، أو شركات عالمية غير مسؤولة تضع الإنسان تحت أخطار بالغة. فأثناء الأزمة، تصاعدت الاستخدامات المختلفة لما يسمى منتجات الثورة التكنولوجية الرابعة، واعتمادها على الذكاء الصناعي والتكنولوجيا البيولوجية وتطبيقاتها في المراقبة الرقمية من خلال الكاميرات والتليفونات الجوالة والطائرات المسيرة والبطاقات الائتمانية لكي يتم حصر وحصار المصابين وعزلهم وقياس حرارتهم. الإشكالية هنا أن هذا الاستخدام للتكنولوجيا ليس فقط داعماً للتنظيم السياسي للدولة، وعما إذا كانت ديمقراطية ليبرالية أو سلطوية مركزية في عملية المكافحة ضد الفيروس المميت؛ وإنما هي تصل ما بين التكنولوجيا و«فيروسات الإرهاب»، التي هي الأخرى من الوحدات السياسية غير الدول ولكنها متطرفة وعنيفة، ولا تفرق بين دول العالم مهما كان نظامها السياسي، ومهما كان دينها الغالب. هي تماماً مثل «كوفيد - 19» لا تفرق بين الغني والفقير، ولا بين المدن والريف، ولا دول الشمال أو دول الجنوب، ولا بين البيض في ناحية، والملونين في ناحية أخرى. هذا الاتجاه كان موجوداً قبل أزمة «كوفيد - 19»، ومن المرجح أنه سوف يظل بعدها، ولكن المعضلة أن ما طرأ عليه من تطورات زادته قدرة وفاعلية وانتشاراً سوف يتفاعل مع الفيروس الإرهابي لكي يعطيه ما فشلت «دولة الخلافة» في إعطائه إياه.
عند هذه النقطة يكون هناك دور «السياسة» التاريخي، الذي هو إنساني، يلتقي عنده القادة مع الشعوب، وماذا يتفقون عليه، وماذا يقررون، والأهم ما يفعلون؟ النظام العالمي في النهاية لا يقرره فيروس وإنما الإنسان. تلك هي المسألة؟!