بقلم: عبد المنعم سعيد
الإعصار هو مُركب من الكوارث الطبيعية، فيها الرياح السريعة العاصفة، والأمطار الغزيرة، والسيول الكاسحة، والتيارات والدوامات الهوائية والبحرية؛ ومجمعها كلها قدرة وطاقة فائقة على التدمير.
المجتمعات والدول الناضجة تكون عادة مستعدة بأجهزة إنذار تعطيها فسحة من الوقت للاستعداد، وكذلك لديها من التجارب السابقة ما تبني عليه خططاً جديدة، ومن هذه تكون القدرات جاهزة للتعامل مع الإعصار، وأحياناً أعاصير متتابعة، ومن بعدها تعرف كيف تتعامل مع الواقع الجديد بالإصلاح والبناء والتعويض والتجديد الذي يتلافى أخطاء المرحلة السابقة. الآن فإن العالم العربي يعيش مرحلة من هذه الأعاصير، منها ما هو من نتائج الطبيعة، كما حدث في مصر مؤخراً من إعصار «التنين»، ولكن منها ما بدأ مع ما سمي «الربيع العربي»، ولكنه كان إعصاراً خلخل الدول العربية بأشكال شتى من ناحية، وجعل منها مطمعاً لدول إقليمية أخرى من ناحية أخرى. الواقع أن هذه الأعاصير ربما بدأت مع الغزو العراقي للكويت، وحينما جرت عسكرة للانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعندما جاء الغزو الأميركي للعراق، حتى جاءت عواصف «الربيع العربي» الرملية الساخنة، لكي تحاول تقويض أسس الدول العربية من جذورها. ولحسن الحظ أنَّه كان هنا بين العرب من صمد للإعصار، ومن بينهم كان من استطاع أن يقف على أقدامه بعد فترة قصيرة، ومن ركب الموجة وترك للمستقبل أن يصحح ما ترتب عليها من كسور وشروخ. ولكن، وعلى الجانب الآخر، فإن من جوف رماد الأعاصير المتراكمة نبتت بذرة ضرورة الإصلاح العميق للدولة العربية في أصولها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والدينية.
وبينما يحدث كل ذلك ما بين الكسور والشروخ والبناء والإصلاح، جاءت حزمة جديدة من الأعاصير ظهرت في شكل ما بات معروفاً عالمياً باسم «كوفيد 19»، الذي أصاب الدنيا كلها، وكان من نتائجها الانخفاض في أسعار النفط، وكل ذلك بينما تجاهد دول عربية لتشكيل وزارة، وتكافح أخرى نوبات جديدة من «الحراك» السياسي، وتدافع ثالثة لمواجهة موجات من العدوان الأجنبي الذي مثلته إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن (وحتى في المغرب أيضاً)، وتركيا التي أرسلت قواتها إلى قطر وسوريا وليبيا، وإسرائيل التي بدأت في اتخاذ إجراءات لضم أجزاء من فلسطين المحتلة، بينما تقول إنَّها سوف تعطي استقلالاً لدولة فلسطينية، وأخيراً، وليس آخراً، فإنَّ إثيوبيا تحاول بناء سد أحد أهم أهدافه حرمان مصر مما أعطاه لها الله بالتاريخ والجغرافيا والقانون الدولي من مياه نهر النيل. كل ذلك شكَّل خللاً فادحاً في الدولة العربية، وفي الإقليم العربي، وفي العلاقات العربية الدولية، وفي استنزاف طاقات عربية يغري بمزيد من الضغط على هيبة عربية مستنزفة.
ما يفضي إليه كل ذلك أن استمراره ليس مقبولاً، فما يجري ليس خسائر تخص كل دولة، فيستطيع الغني أن يتفادها بماله، ويستطيع القوي أن يتجنبها بقدرته، وينجح من اقترب من الغرب أو الشرق أن ينفذ من بين براثنها بعلاقاته، ويتمكن فيها من أصلح حاله أن يجد له وضعاً لا يكون فيها عودة إلى الوراء.
ما يحدث هو أن الهجمة مستمرة، وهي ما لم تسفر عن وجهها القبيح بالمواجهة المباشرة، فإنه يظهر في شكل عملية استنزاف وصرف الموارد عن مآلها في البناء والإصلاح إلى مواجهات تأخذ شكل اعتداءات مباشرة، أو اختراقات للبنية الداخلية للدول، أو حتى استنزافها في مفاوضات لا تنتهي، حتى ولو كان الاتفاق ممكناً. الأمر كله يسفر عن اختلال هائل في موازين القوى بين العرب والدول الإقليمية الأخرى التي انتهزت في الماضي ظروفاً صعبة أو غفلة، والآن فإنها تحاول استثمار أوضاع جديدة لا تقل صعوبة، وبينما الهدف كله هو الإقليم العربي أن هناك استهدافاً خاصاً لمصر والسعودية، الأولى بما تفعله إثيوبيا إزاء مياه النيل، وما تفعله تركيا إزاء ليبيا؛ والثانية بما تفعله إيران في العراق والخليج واليمن، وتركيا في سوريا. استراتيجياً، فهذه محاولة للحصار لمرتكزات أساسية في النظام العربي.
علاج ذلك لن يكون إلا عربياً. وليس سراً على أحد أن كاتب السطور ليس من دراويش «القومية العربية» التي تتجاهل أو تتجاوز المصالح أو التقاليد الخاصة بكل دولة عربية؛ ولكن أوروبا وآسيا وأميركا الجنوبية، وحتى أفريقيا، عرفت من منطلقات الدول فيها كيف تواجه ضغوطاً وأعاصير جاءت من نوعيات مماثلة من الاختلال. وكانت الفاتحة في المقاومة أولاً في الإصلاح الداخلي العميق، وهو ما تسير فيه بالفعل الآن العديد من الدول العربية، في المقدمة منها مصر والسعودية والإمارات والبحرين والكويت والأردن والمغرب. ولكن هذا الإصلاح مهما كان عميقاً وسط الأعاصير الجارية ليس كافياً، فالتيارات عاصفة والدوامات عميقة والضغوط كاسرة. وفي الواقع العربي الحالي، فإنه لا توجد أداة للعمل الجماعي العربي، سوى ما كان يسمى «التحالف العربي الرباعي»، الذي يضم السعودية ومصر والإمارات والبحرين؛ فالجامعة العربية، على الرغم من الجهود التي يبذلها أمينها العام، فإنها أسيرة نظام عربي يواجه الخلل والعواصف.
التحالف الرباعي العربي لا ينبغي له أن يكون أداة للتعامل مع قطر، ليس فقط لأنها ليست القضية المهمة، وإنما أطراف دولية وإقليمية أخرى، وهي التي ينبغي التركيز عليها لتصحيح توازن القوى، وإقامة نظام للأمن الإقليمي، لا يضيع فيه المزيد من الحقوق العربية المشروعة في الأمن والأرض والمياه والاستقرار. فالثابت أن جهود الإصلاح، كما أنها لا تكفي وحدها لكي تكون مقاومة «كوفيد 19» ناجزة، ولا بد من وجود اللقاح الذي يحمي، والدواء الذي يعالج، والإجراءات التي تقوم بحصار المرض؛ فإنَّ الأمر كذلك عندما يكون المرض الإقليمي هو محصلة الخلل في توازنات القوى من ناحية، وشراسة وغدر العدوان من الدول الإقليمية من ناحية أخرى. السوابق تقول إن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية كان فاتحة تعاون كبير بين البلدين، بما فيها السعي لبناء نظام لإقليم البحر الأحمر تتبناه السعودية، وممتد حتى القرن الأفريقي. ومصر من ناحيتها كان تخطيطها للحدود البحرية مع قبرص فاتحة لإقامة منتدى غاز شرق البحر المتوسط، الذي يضم من الدول العربية مصر والأردن وفلسطين. ولكن هذه السوابق بالتأكيد ليست كافية، وهي تبدأ الطريق، ولكنها لا تبلغ نهايته، وإذا كان العالم الآن مشغولاً بفيروس كرونا، فإن إيران رغم الإصابة الكبيرة تبدو أنها في العراق ولبنان وسوريا واليمن على استعداد لكي تكون أكثر شراسة، وإثيوبيا تعول على أن تبنيها استثمارات عربية من ناحية، بينما تسعى للتحكم في مياه النيل الذي يذهب إلى مصر من ناحية أخرى، وإسرائيل تحارب الفيروس بساعد، وتريد ضم غور الأردن وأرض المستوطنات بالساعد الآخر. التحالف الرباعي العربي يمكنه أن يكون نواة منظومة استراتيجية (Concert of Arabia) تواجه الخلل الاستراتيجي الحادث، ويجعل من الإصلاح رابطة إقليمية واستراتيجية تصحح الخلل في توازنات القوى. الأمر صعب لا شك، ولكن ما هو أصعب هو استمرار الأوضاع الراهنة والمواجهة المنفردة للأوبئة والتهديدات الإقليمية.