تطرقت الأسبوع الماضى لموضوع المعالم التراثية فى المدن المصرية العريقة والتى يشكو الرأى العام- بقوة وإلحاح- من مصيرها تحت عنوان «التطوير والتحديث».
ومع اقتناعى بأن ليس كل قديم بالضرورة جدير بالحماية، فإن الغموض والسرية المحيطين بهذا الموضوع وتأثيره على الحدائق والبيوت والقصور والمقابر والعوامات والمحال وغيرها، مع تجاهل المسؤولين للشكاوى والاستغاثات باستثناء استجابة السيد الرئيس لموضوع المقابرالتاريخية.. كل هذا جعل الناس تتوجس من تدخل الدولة لهدم أو إزالة أو حتى تجديد المعالم التراثية.
دعونا اليوم- مع ذلك- نتقدم من مساحة الشكوى إلى مساحة الحلول الإيجابية. وأقترح أن نفكر معا فى بعض المقترحات لعلها تفتح مجالا لحوار مطلوب: «أقترح بداية أن ننظر فى التعريف القانونى لمفهوم (المبانى والمعالم التراثية)». وأستخدم كلمة تراثية عمدًا، لأن المعروف فى القانون بدقة هو المبنى «الأثرى». والآثار محمية بقوانين تنظمها، ومجلس أعلى يحرسها، وعقوبات رادعة تقع على مخالفيها.
أما مفهوم «المبنى التراثى» فليس بهذه الدقة، بل يعرف القانون تعبير «المبنى ذى الطابع الخاص» ويضعه تحت مظلة أجهزة التنسيق الحضارى. وهذا وضع طبيعى، لأن ما يدخل تحت إطار التراث بالضرورة أكثر اتساعا وشمولا مما هو أثرى.
وإدخال كل ما هو تراثى فى نطاق ذات الحماية الجنائية للآثار ليس مناسبا. ومع ذلك فإن هناك ما يستدعى التفكير فى اعتماد مفهوم جديد للمعالم «التراثية» وتنظيم حمايتها قانونا حماية مناسبة ومتفقة مع طبيعتها.. وأتمنى سماع رأى الخبراء فى ذلك.
أقترح أيضا أن »نتفق على أن أفضل حماية للمعالم التراثية هى أن تكون فى حالة استخدام أو فى حالة (حية)، لأن الاستخدام هو ما يحفظ الأشياء من التلف وليس غلقها وتركها مهملة للسرقة أو الانهيار البطىء، ولأن مصر- والحمد لله- غنية بآثارها ومعالمها التراثية.
فإن هذا يضع علينا عبء الصيانة والتجديد للحفاظ على هذا التراث، وهو عبء تتحمله الدولة بمشقة بالنسبة للآثار«، ولكن لا يقدر الكثير من ملاك وقاطنى المعالم والمبانى التراثية على النهوض به. وهذه مشكلة قائمة ومعروفة فى كل الدول التى تجتمع فيها الصفتان: »كثرة الآثار والتراث، مع قلة الموارد!«.
الحل الذى لجأت إليه الدول صاحبة هاتين الصفتين هو وضع الإطار القانونى والرقابى السليم الذى يفتح باب استخدام المعالم التراثية (بلوالأثرية) للنشاط التجارى والاقتصادى، بما يوفر الموارد المطلوبة للصيانة والتجديد، ويعيد للمهمل منها الحياة والرونق، ويشغل الشباب فى هذا المجال الرحب، ويضيف معالم سياحية جديدة و«خفيفة» تنسجم مع سياحة العصر.
ولكن هذا موضوع بالغ الدقة والحساسية، فلا نريد أن يكون المخرج الوحيد من الهدم والإزالة هو الاستغلال التجارى القبيح، ولا أن تتحول معالمنا التراثية إلى سلاسل من المحال النمطية التى لا تضيف سوى المزيد من الضجيج والقمامة والازدحام.
المطلوب هو توازن دقيق ما بين تشجيع النشاط التجارى وحماية التراث واحترامه. ولهذا فإن الدول التى نجحت فى هذا المجال لم تكتفِ بمجرد إطلاق العنان للاستثمار والتجارة، بل وضعت ذلك فى إطار قانونى ورقابى محكم، بحيث يحقق صاحب المشروع التجارى العائد الذى يستحقه، ويلتزم فى الوقت ذاته بصيانة المعلم التراثى وتجديده وباحترام السكان والمنظر العام والنظافة والهدوء والمواعيد وغير ذلك مما يرفع من قيمة المكان بدلا من أن ينتقص منه.
وأخيرًا.. فإن الدولة لا تتكون فقط من ثنائية الحكومة والقطاع الخاص، بل هناك طرف ثالث ذو دور هام، وهو القطاع الأهلى، والذى أقصده هو تشجيع المهتمين بالحفاظ على تراث المدن وتاريخها ومعالمها وثقافتها وفنونها، على أن يكون لهم دور منظم وتطوعى لحماية المعالم الأثرية والتراثية، وأن يساهموا فى توفير الخدمات والتمويل الذى تحتاجه، ويساعدوا فى التوعية بها، ويقدموا جهدا تطوعيا مطلوبا، ويساهموا مع الدولة فى الإشراف اليومى عليها.
كل هذا لا يتحقق بمجرد إطلاق يد المنظمات الأهلية فيما تشاء أن تفعله، وإنما بتحديد دورها ومنحها صلاحيات مناسبة وقبول مشاركتها بصدر رحب مقابل ما يمكن أن تقدمه من مساندة مادية ومعنوية لا غنى عنها.
فهدم المعالم التراثية مرفوض، وتركها للإهمال والتداعى غير مقبول، وشغلها باستخدامات لا تناسب قيمتها ومكانتها ليس الحل.
علينا إذن اعتماد نموذج جديد يتيح استغلال الأصول التراثية بكفاءة ونجاح، ويحافظ عليها ويصونها ويرتفع بمكانتها.. »فمن لديه أفكار أخرى مفيدة؟».