بقلم - مدحت نافع
أظهر تقرير تنافسية الاستثمار العالمى الصادر عن مجموعة البنك الدولى فى عام 2019 /2020 عددا من النتائج الهامة، بخصوص اتجاهات وتفضيلات الاستثمار الأجنبى. فقد احتوى التقرير على مسح أجرى على أكثر من 2400 مستثمر أجنبى فى عشر دول متوسطة الدخل خلال الفترة بين يونيو ونوفمبر عام 2019. وقد أسفرت نتائج المسح عن أن الشركات المملوكة للأجانب تواجه حالة عدم يقين كبيرة فى سياسات التجارة والاستثمار، والتى يمكن أن تؤثر سلبا على قرارات الاستثمار المستقبلية.
الدول العشر التى شملها المسح هى البرازيل والصين والهند وإندونيسيا وماليزيا والمكسيك ونيجيريا وتايلاند وتركيا وفيتنام. تمثل استثمارات الشركات التى شملتها الدراسة نحو 400 مليار دولار أمريكى (نحو 10% من رصيد الاستثمار الأجنبى المباشر فى الدول التى شملها الاستطلاع) وتوظف ما يقرب من مليون عامل، بناء على تقديرات متحفظة.
وقد أفاد نحو ثلثى المستثمرين بأن حالة عدم اليقين المرتبط بالسياسة الحمائية الاقتصادية فى التجارة والاستثمار هو إما «مهم» وإما «مهم للغاية» فى قراراتهم الاستثمارية، حيث تنخفض ثقة المستثمرين عندما يكون اتجاه صنع السياسة غير واضح أو غير متوقع.
حتى قبل انتشار جائحة كورونا، كان العديد من المستثمرين يؤجلون خطط التوسع الاستثمارى الخاص بشركاتهم. وفقا للمسح، فقد خطط أقل من نصف الشركات فقط لتوسيع استثماراتهم على مدى سنوات ثلاث مقبلة، واختلفت تلك الخطط من دولة إلى أخرى بحسب درجة عدم اليقين فى سياسات الدول. ففى الصين ممثلا كشف 17% من الشركات الأجنبية عن خطط للتوسع فى الاستثمار، وفى تركيا كانت تلك النسبة 35%، بينما كانت تلك النسبة أكبر فى دول أخرى، مثل نيجيريا التى أعربت أربعة أخماس الشركات الأجنبية العاملة فيها عن خطط للتوسع الاستثمارى، والهند التى أعلن ثلثا الشركات الأجنبية العاملة بها عن خطط لزيادة الاستثمارات بها على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
• • •
إن تأثير عدم اليقين فى سياسات التجارة والاستثمار، وأساسيات الاقتصاد الكلى، والتطورات السياسية، والبيئة القانونية والتنظيمية كان حاسما فى تشكيل خطط استثمار المستثمرين الأجانب فى الدول التى شملها المسح المذكور. وفقا للتقرير فقد تمثلت أهم ثلاثة عوامل مؤثرة فى قرارات الاستثمار فى: الاستقرار السياسى، واستقرار الاقتصاد الكلى، والبيئة القانونية والتنظيمية للدولة. ما يقرب من 9 من كل 10 شركات اعتبرت تلك العوامل «هامة» أو «هامة للغاية». تأتى تلك العوامل فى مرتبة متقدمة على الاعتبارات المالية المتعلقة بمعدلات الضرائب، وتكاليف العمالة ومدخلات الإنتاج، والوصول إلى الموارد المتاحة. علاوة على ذلك، تصنف الشركات الكبيرة (التى تضم أكثر من 250 عاملا) «البيئة التنظيمية المواتية» كأهم عنصر جاذب للاستثمار، وبالتالى فقد استقر التقرير على أنه من المرجح أن يقوم المستثمرون الذين يواجهون عقبات قانونية وتنظيمية كبيرة بتقليل أو سحب استثماراتهم من البلد المضيف.
ولما كان العالم يواجه صدمات إضافية من شأنها زيادة حالة عدم اليقين، وفى مقدمتها تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وما استتبعها من عقوبات اقتصادية متبادلة بين معسكرى النزاع، تلك التى ألقت بظلالها على اضطراب سلاسل الإمداد، وحركة التجارة وعززت من الاتجاهات الحمائية والقومية، وتسببت فى موجة تضخم غير مسبوقة أسفرت عن سياسات نقدية متشددة كانت وبالا على الدول المدينة الأقرب إلى حالات التعثر المالى. فقد كان من الضرورى مواجهة تلك الصدمات بتدابير استثنائية عاجلة، ناهيك عن التدابير الضرورية لاستعادة الثقة فى الدول النامية المتلقية للاستثمار الأجنبى.
وقد دعم النتائج السابقة مراجعة حديثة لمؤشر ثقة الاستثمار الأجنبى المباشر الذى تصدره شركة «كيرناى» Kearney الرائدة عالميا فى مجال الاستشارات الإدارية، والذى لم تضم قائمته للشركات الأكثر جذبا للاستثمار الأجنبى المباشر سوى 4 شركات نامية من أصل 25 شركة. وقد كانت تلك الدول هى: الصين (شاملة هونج كونج) والإمارات العربية والبرازيل وقطر. وقد احتفظت الولايات المتحدة وكندا وألمانيا بالمراكز الثلاث الأولى للدول الأكثر جذبا فى المؤشر خلال مراجعتى عامى 2021 و2022، علما بأن ذلك المؤشر الذى تم تطويره منذ العام 1998 يمكنه التنبؤ باتجاهات الاستثمار الأجنبى المباشر للسنوات الثلاث القادمة، إذ يعكس آراء المستثمرين وخطط استثماراتهم المستقبلية فى الدول الجاذبة للاستثمار.
وفى مصر تداول العديد من العاملين فى مجال سوق المال تسجيلا لورشة عمل افتراضية نظمها أحد بنوك الاستثمار، وأبدى خلالها عدد من المستثمرين الأجانب قلقهم من التدخلات الرقابية فى آليات عمل البورصة، ومن ذلك إلغاء العمليات وإيقاف الشركات وتواتر استحداث القواعد... حتى أن أحد المستثمرين قال للرقيب أن السوق المصرية فى اتجاهها إلى أن تصبح (وفقا لوصفه) سوقا «غير قابلة للاستثمار»! من الضرورى إذن عدم التهاون فى التعامل مع مخاوف المستثمرين، واتخاذ آرائهم بوصلة لما ينبغى أن تكون عليه الأسواق الحرة الخاضعة للتنظيم الرشيد، لا التقييد أو التنفير أو اتخاذ القرارات بمعزل عن نبض السوق واحتياجاته والتجارب الدولية الموثقة.
وإذ تمثل جائحة كورونا والحرب فى أوكرانيا صدمة غير مسبوقة للاقتصاد العالمى والشركات متعددة الجنسيات، فإن الحاجة باتت ملحة إلى سياسات عاجلة قصيرة الأجل لتعزيز ثقة المستثمرين. لكن بالإضافة إلى الاستجابة قصيرة الأجل للأزمات، يجب على الحكومات معالجة المصادر الدولية والمحلية لحالة عدم اليقين بشأن السياسات، من خلال إعادة تأكيد الالتزامات تجاه أنظمة التجارة والاستثمار العالمية والإقليمية، وتعزيز الاستقرار السياسى، وتعزيز استقرار الاقتصاد الكلى، وتحسين الأطر القانونية والتنظيمية للاستثمار الأجنبى المباشر. لا شك أن إنشاء بيئة تنظيمية مواتية صديقة للأعمال ويمكن التنبؤ بها، يتجاوز مسألة إصدار القوانين والقرارات واللوائح، ويتضمن تنفيذها الكامل والمتسق فى الممارسة العملية، وعدم الإفراط فى استخدام آلة التشريع والعسف فى تنفيذ العقوبات.
• • •
يشير تقرير تنافسية الاستثمار العالمى إلى أن احترام اتفاقيات التجارة والاستثمار الدولية والإقليمية من شأنه تحسين مصداقية الحكومة فيما يتعلق بالتزامها بمسار السياسات المستقبلية. فى حالة عدم وجود مثل هذه الالتزامات، قد تتردد الشركات المملوكة لأجانب فى اتخاذ قرارات الاستثمار، إذا اعتقدت أن القواعد الحالية قد لا يتم الالتزام بها فى المستقبل. كذلك يؤكد التقرير على أهمية استمرار جهود تحرير التجارة والاستثمار، من خلال الآليات متعددة الأطراف والإقليمية لتعزيز ثقة المستثمرين. بالتوازى مع ذلك، يجب أن تستمر الحكومات فى الحد من التشوهات الاقتصادية من خلال الإصلاحات الهيكلية. وأشار التقرير إلى أهمية الشفافية فى توصيل اتجاهات السياسات الاقتصادية وسياسات الاستثمار إلى المستثمرين المحتملين، للحد من حالات عدم اليقين ومن ثم المخاطر.
ويضع التقرير روشتة مبسطة لإزالة الحواجز الإدارية أمام الاستثمار الأجنبى نلخصها فى النقاط التالية:
• يجب على صانعى السياسات مقاومة إغراء الانخراط فى الحمائية والقومية الاقتصادية فى أسواقهم. وهذا يستلزم إزالة القيود الطاردة للاستثمار الأجنبى، والحد من التمييز المفرط غير الموضوعى ضد الشركات الأجنبية.
• إزالة الحواجز الإدارية المعوقة: حيث يؤكد المشاركون فى مسوح واستطلاعات الرأى إلى خطورة الإجراءات المرهقة لإصدار تراخيص وموافقات الاستثمار، وكذلك القيود المفروضة على الأسعار أو التكنولوجيا أو المنتجات باعتبارها جميعا تشكل عقبات مانعة لتدفق الاستثمار.
• التركيز على تحسين كفاءة إنفاذ القوانين وجودتها، ويشمل ذلك تبسيط الإجراءات والموازنة بين الحوكمة الناجعة والتقييد المفرط للاستثمار.
• العمل على تحاشى تداخل المهام بين الجهات المنظمة للاستثمار، للحد من التعقيد الإدارى والبيروقراطية المعوقة. من هذا بالتأكيد إزالة التداخل بين دور الرقباء المنظمين فى سوقى المال الأولية والثانوية، وعدم الخلط بين دور رقيب الصف الأول (إدارة البورصة) ورقيب الصف الثانى (الهيئة العامة للرقابة المالية) فى اتخاذ القرارات التنظيمية والرقابية، ناهيك عن تجنب تبادل الاتهامات بين الرقيبين!
• مرونة القرارات السياسية لاستيعاب الصدمات الجديدة، لمساعدة الشركات والمؤسسات الأجنبية على التكيف مع تداعيات تلك الصدمات وعدم الفرار من الأسواق.
• • •
فى الختام، يجب عدم التهاون مع زيادة حدة المخاطر التنظيمية فى مختلف الأسواق، وما يرتبط بها من مخاطر السمعة التى يمكنها أن تشكل خارطة الاستثمار الجديدة، بعد استبعاد جميع الدول التى تعمل فيها أدوات الرقيب والمنظم بصورة عشوائية متعسفة وبغير ضوابط مقيدة لقراراته، وبلا مراعاة لاعتبارات تنافسية البيئة الاستثمارية للدولة.