بقلم - أمينة خيري
ذكرى الثورات ومرور المناسبات فرص ذهبية للمراجعات والمحاسبات. والمحاسبات ليست بالضرورة مهمة الجهاز المركزى للمحاسبات أو الهيئات الرقابية أو العقابية، بل إن حلاوتها وروعتها تتعاظم حين تكون ذاتية المنشأ.
ننظر إلى المرآة اليوم ونتذكر حالنا قبل خمس سنوات وقت هبت ملايين هاتفة بسقوط حكم المرشد. يتذكر من شارك فى الثورة أو تعاطف معها أو أيدها كيف كانت البلاد تسير بخطى ثابتة نحو هاوية الدولة الدينية لتكلل عقود طويلة من ضياع الهوية المصرية التى تمت التضحية بها لحساب هويات وثقافات مستوردة. نتذكر كيف نزلت الشارع نساء ورجال لا يهوون السياسة أو يتعاطونها، لكنهم نزلوا فى مهمة إنقاذية عنوانها «نكون أو لا نكون». نتذكر كيف تناسينا شعارات ثورة يناير التى بدت تحت وطأة اللحظة رفاهية لا حمل لنا بها. فأن تعيش فى دولة تفتقد الحرية والعدالة الاجتماعية أفضل من ألا تجد دولة تعيش فيها من الأصل.
أصل الحكاية فى ثورة يونيو يجب أن يبقى حاضرًا فى ذهن كل من شارك فيها بالفعل أو بالتضامن. وهو الأصل الذى يجب أن يظل بعيدًا عن كتب التاريخ ومقرراته الدراسية لبعض الوقت وذلك منعًا للتطبيل واتقاء لشرور التسييس ووقاية من مغبة الانحياز مع أو ضد هذا الطرف لحساب ذاك.
لكن ذلك لا يمنع أبدًا من أن نحاسب أنفسنا ونراجعها وننظر بإمعان إلى المربع الذى نقف فيه اليوم بعد خمس سنوات من أكبر عملية إنقاذ شعبية جماعية فى تاريخ مصر وربما العالم. مربعنا الذى ينوء بحملنا اليوم ينبئنا بأن الوضع الاقتصادى صعب جدًا. وجانب من هذه الصعوبة يكمن فى الخطورة السياسية والأمنية.
فالمواطن الرازح تحت ضغوط اقتصادية كبيرة يكون أشبه بالمراهق الذى لم يجد من يحنو عليه فى البيت، فاتجه إلى رفاق السوء فى الشارع، يدخن مع هذا ويتعاطى مخدرات مع ذاك هربًا من مشاكله الداخلية. والمواطن الذى يجد صدرًا حنونًا اليوم فى قناة إخوانية الهوى أو هاشتاج خبيث النية لم يجد فى إعلام بلده أو مسؤوليها أو حلولها غير التقليدية ما يفى الغرض. بالتأكيد هو يعى حتمية تجرع الدواء المر، لكن استمرار المرارة دون التلويح بأى حلاوة أمر خطير.
وعلى القدر نفسه من الخطورة تقبع الجهود السلفية المنتشرة «من تحت لتحت» فى ربوع مصر، والمتجلية آثارها الخبيثة والخطيرة فى كل شارع وميدان وحى. ويشير العلم إلى أن الطفيليات كائنات دقيقة تعيش فى جسم الإنسان. وقد تظل كامنة خاملة، لكنها قد تتحول إلى وحش مفترس وتتغذى على خلايا الجسم لا سيما فى حالات المرض، حيث تنمو ببطء وتكون أشبه بالسم البطىء. يقتل ولكن ببطء.
سم انتشار مظاهر المجموعات السلفية فى مصر آخذ فى الانتشار. هذه المجموعات قالت إنها تدعم ثورة يونيو، وقالت إنها تدعم الرئيس السيسى، وقالت إنها تكره الإخوان. لكنها لم تقل إنها تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تملأ الفراغ الذى تركه الإخوان. كما لم تقل إنها اشد خطرًا على الهوية المصرية من أبناء عمومتها من الجماعات المتأسلمة. ولم تقل أيضًا إنها وبعد نضوب مصادر التمويل الكلاسيكية ستتحول إلى نسخة شعبوية مقيتة تقدم خليط تبخر الهوية المصرية الأصلية مع التدين المظهرى مع الأصولية المفصلة تبع أهواء «مشايخ» هواة فى كأس واحد.
وفى ضوء السدة السياسية التى نعيشها ومعها الإصرار على تجميد الخطاب الدينى تجميدًا أصيلاً لا مجال لفتح النقاش حوله أو تطهير أجوائه أو حتى الاعتراف بأن طيور الظلام عششت فيه منذ سنوات حتى استحوذت على أغلبه، تصبح الأرض جاهزة تمامًا لملء هذه الفراغات وشغل هذه المساحات.
مساحة الثقة التى أعطتها نجاح ثورة يونيو لملايين المصريين تسمح لهم بالتمسك بتلابيب الأمل فى انصلاح الأحوال. صحيح أن علقم الاقتصاد يزداد مرارة، وتدهور الأخلاق يتفاقم ضراوة، وغياب القانون فى الشارع يجعل من المشهد لوحة هزلية مقيتة، وصحيح أن إصلاح التعليم «معصلج حبتين»، وتطوير ملف الصحة مستعصى بعض الشئ، وأسعار السلع مبالغ فيها كثير من الشئ، لكن من شن ثورتين شعبيتين عارمتين فى عامين قادر على إصلاح الأوضاع وتحسين الأحوال، تارة بالإصرار على فتح الساحة السياسية وأخرى بتحسين الإنتاجية وثالثة برفع الوعى فيما يختص بالخلطة الجهنمية حيث التديين بالسياسية بالشارع، ورابعة بالضغط على أولى الأمر من أجل المزيد من التصحيح والتدقيق والتنقيح فى الاختيارات والقرارات وتجديد ما تجمد من خطابات.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع