لو سئلت عن أبرز ما بات يميز المصريين هذه الآونة لقلت الإحباط. الغالبية المطلقة يعتريها شعور عارم بالإحباط وفقدان الأمل. صحيح أن فئات المجتمع المختلفة تعبر بطرق متفاوتة ومتراوحة -وأحياناً متناحرة- عن هذا الإحباط، لكن فى نهاية المطاف تظل هناك سحابة إحباط كثيفة ثقيلة سخيفة تهيمن على الغلاف الجوى المصرى.
الغلاف الجوى المصرى يعانى هبابة كبيرة ويرزح تحت غمامة عميقة. ولعل جانباً مما سبق يندرج ضمن باب تخبطات ما بعد الثورات ولخبطات تأتى فى أعقاب التغيرات، ونحن مررنا بالكثير منها وتجرعنا كميات هائلة بعضها ذاتى المنشأ، والبعض الآخر وارد الخارج. لكن علينا أن نعترف كذلك أن الأوضاع المعيشية ومعها توليفة من الإجراءات -أو بالأحرى نقص الإجراءات- الرسمية مع قليل من الاختيارات العجيبة الغريبة أججت من حالة الإحباط العام التى نعيشها على مدار الساعة.
الساعة السابعة صباحاً وأعلى كوبرى 6 أكتوبر، حيث يفترض أن يكون الناس ما زالوا فى مرحلة انتعاش الصباح، تجد كماً مزرياً من العنف المتبادل بين كثيرين، بعضه استباقى حيث يحك هذا فى سيارة ذاك كنوع من التنفيس عن غضب كامن، ويرد ذاك بشتائم وسباب لرد الإهانة واستعادة الكرامة. ولمَ لا والأمور أعلى الكوبرى -كما هو الحال فى الغالبية المطلقة من شوارع المحروسة باستثناءات بسيطة- متروكة ليحل الناس مشاكلهم مع بعضهم البعض دون تدخلات قانونية. فالبقاء للأقوى من حيث العضلات، والانتصار من نصيب من لديه الجسارة ليعتدى على الآخرين ويرهب المحيطين.
وللعلم والإحاطة فإن الإحباط علمياً يحرك ويؤجج التصرفات العدوانية.وللعلم والإحاطة كذلك فإن الأسر ذات المستوى المادى المنخفض يميلون إلى اللجوء إلى العقاب البدنى لبعضهم البعض بشكل أكبر مقارنة بأبناء الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأعلى.
أما خصوصية الوضع فى مصر فهى تعرض سقف طموحات المصريين بمختلف مستوياتهم على مدار السنوات السبع الماضية، إلى ارتجاجات وتقلبات واهتزازات عنيفة رفعتهم سابع سماء، ثم أعادت رزعهم سابع أرض دون هوادة.
هذه التقلبات لم تستثن أحداً؛ فمحبو وأتباع الجماعات الإسلامية تصوروا أن مصر ستتحول لدولة دينية يحكمها ملالى الإخوان أو السلفيين، أيهما أقرب. وحين أطيح بالإخوان وتم تدجين السلفيين، هوت الطموحات وارتطمت الآمال (وإن كان السلفيون يعملون بجد وكد على الأرض الآن).
والحالمون بدولة مدنية ترتكز على قواعد الديمقراطية وتعتمد أصول التعددية فوجئوا بأن الغالبية تؤمن بالديمقراطية طالما ترسخ اختياراتهم دون غيرهم وتنتصر لأفكارهم وليس غيرهم.
أما المتمسكون بتلابيب الكنبة، الذين لا يطمحون إلا لعيشة وديعة وراحة ذهنية وأكلة هنية فقد استيقظوا على واقع مرير حيث وضع اقتصادى أفرزته سنوات الارتطامات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، مع عقود من تجريف الشخصية المصرية التى باتت لا تتقن عملاً أو تؤمن بقيمة من القيم التى تدفع أمماً إلى التقدم والتحضر بدءاً بالضمير مروراً بالتنظيم وانتهاء بصوت القانون الذى لا يعلو صوت على صوته.
وبغض النظر عمن أخطأ فى الماضى وما جرى فى المحروسة، نعود إلى الإحباط من وجهة نظر علمية. فالمجتمعات التى تغيب فيها العدالة الاجتماعية، وتتسم بوهن الانتماء للوطن واعتباره حملاً لا عزة وكرامة، ويغيب فيها تطبيق القانون بعدل وصرامة، بدءاً بأصول السير فى الشوارع والميادين مروراً بقواعد العمل فى المصالح والدواوين وانتهاء بالأطر الدستورية التى تحدد علاقة الفرد بأقرانه وعلاقة الجميع بالحكم، هذه المجتمعات يشيع فيها الإحباط وتظهر فيها العدوانية ويبزغ العنف المعنوى واللفظى والجسدى.
الطريف والمؤسف فى آن أننا محظوظون لدرجة تضافر العوامل التى هى من صنع الإنسان لتلك التى تفرضها الطبيعة لتتواءم وتتضافر وتجعل منا «محبطين وعدوانيين كومبليتلى» وليس «لايصين كومبليتلى» كما ذكر الدكتور البرادعى. فقد أكد علماء النفس الاجتماعى أن الحرارة الشديدة والرطوبة الكثيفة والتهوية القليلة والضوضاء الرهيبة تدفع الإنسان دفعاً إلى التصرفات العدوانية.
وإذا كنا عاجزين عن تغيير الأوضاع الجوية وتعديلها، فلنركز على ما يمكن تعديله وتحسينه. وواقع الحال يشير إلى أن الأمر فى حاجة ماسة إلى تعديل الكثير من المسارات الحكومية مع تقويم العديد من التصرفات الشعبية. فمثلاً بدلاً من سلام وطنى يعزف فى المستشفيات، وإصلاحات جذرية تحدث فى شارع الميرغنى، ولجان مرورية فى الأماكن التى يمر بها كبار رجال الدولة ونسائهم يمكن أن نولى صحة البشر اهتماماً، وشوارع الغالبية اعتناءً، ومرور الشعب استفاقة من غيبوبة.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع