بقلم - أمينة خيري
خواطر كثيرة تتوارد على هامش الحروب والصراعات. انغماس البشر فى الأحداث الجِسام عادة يمنعهم من رؤية ما هو أبعد أو أعمق من الأزمة الراهنة. ولو أخذنا حرب غزة نموذجًا، فإن ما يشغل أغلبنا وما يسيطر على تفكيرنا طيلة الوقت هو متابعة عداد القتلى والمصابين، ومتابعة صور الخراب والدمار. وأقصى ما يمكن عمله للشخص العادى هو التفكير فى «عقوبة» آنية يظن أنها ستلحق أكبر الضرر، أو فلنقل ما يتيسر من ضرر، بالجهة الغاشمة الظالمة الباطشة.
وهذا أمر جيد، إذ يبقى دلالة على أن بيننا مَن لم يفقد حسه الإنسانى وميله الفطرى للتضامن مع المظلوم والمقهور. وأعود إلى مسألة ما وراء الحدث. هل الحدث- مهما بلغت درجة فداحته- هو المشهد الآنى من آلة قتل وإبادة وتهجير؟، أم أنه أبعد وأعمق من ذلك؟.
لا شىء ينافس فى فداحته الشهداء من المدنيين، لكن تبقى هناك أبعاد أخرى لهذا المشهد، لا تحلها مقاطعة قهوة وهامبورجر وصابون، ولا تحلحلها رواج بيع أعلام المظلوم وارتداء كوفيته وتداول رموزه وعلاماته، ولا تخفف من وطأتها الدنيوية حسبنة ودعاء على الظالم والباطش.
الأبعاد الأخرى هى جزء أساسى من نظام العالم من حيث القوة والعلم والعمل والتحالفات والتوازنات والمواءمات. كل ما سبق موجود حولنا، ونعيش معه، ونتأثر به (ولا نؤثر بالضرورة) قبل وأثناء وبعد حرب غزة. بمعنى آخر، حرب غزة هى الحدث الجلل الذى شغل البال وجذب الأنظار وسيطر على الأفكار، لكنه لم يحدث فجأة أو تم استحداثه من عدم. هو نتيجة طبيعية لتوازنات العالم، ومَن يملك ماذا؟، ومَن يتحكم فيمَن؟، ومَن أشد تأثيرًا؟.
والتأثير لا يأتى فقط بعمق التاريخ، أو روعة الجغرافيا، أو جمال اللغة، أو صدق المشاعر، أو فصاحة اللسان، أو حرارة الدعاء، أو قوة الحناجر. التأثير يأتى من مصادر عديدة، ليس من ضمنها «تخيل التأثير» أو فرضه أو إجبار سكان الأرض على الوقوع تحته. بين قوى ناعمة وأخرى خشنة، يمضى التأثير على ظهر الكوكب دون أن يتوقف ليسأل أمة ما إن كانت توافق على ماهية هذا التأثير، أو تحب أن تغيره أو تعدله لصالحها. التأثير يتسلل إلينا دون أن ندرى.
صناعة أفلام مؤثرة تصل إلينا فى عقر دارنا، أبحاث علمية تسفر عن دواء يعالج أمراضًا مستعصية أو حتى صداعًا يبدو بسيطًا، صناعة وابتكار مركبات من سيارات ملاكى ووسائل مواصلات وسيارات إسعاف ومطافئ ودراجات وتوك توك تنقل الناس من مكان إلى مكان وتساعد فى نقل المرضى وإنقاذ المتضررين.
بل فى شؤون التفاخر بامتلاك أحدث الموديلات، أسلحة خفيفة وثقيلة قادرة على القتل والإبادة وأيضًا تحمل إمكانية الردع والحماية والوقاية، وقائمة التأثير تطول. ربما يجدر بنا التفكير فى أمر العالم ومنابع قوته وتأثيره بعد انتهاء حرب غزة، إذ ربما نَعِى الحقيقة وندرك منابع التأثير.