بقلم - أمينة خيري
أشفق على حكومات العالم وأنظمته الحالية فى تلك المهمة الثقيلة الصعبة المعقدة المتشابكة الملقاة على عاتقها ألا وهى معرفة أو قياس أو استنباط توجهات الرأى العام. وبعيدًا عن الأسباب التى تجعل الحكومات والأنظمة فى حاجة إلى معرفة توجهات الرأى العام، وأولها فى رأيى بقاء النظام فى الحكم وبقاء الحكومة دون تغيرات كبرى، فإن المعرفة الحقيقية لما يدور فى القاعدة الجماهيرية الكبيرة من أفكار وأحلام ومطالب ومصادر غضب أو رضا وعوامل هدوء وسكنية أو احتقان وغيظ أمر بالغ الصعوبة فى العقد الثالث من الألفية الثالثة. وإذا كانت قياسات الرأى العام منذ التطور العلمى فى قياس توجهات الرأى العام فى مطلع القرن العشرين دائمًا كانت مخادعة وملاوعة وعصية على القياس الحقيقى، فهى حاليًّا بالغة ومتناهية الصعوبة لما تحمله من فرص ذهبية لهواة التضليل ومحترفى التمويه.
قبل أيام، تناول الإعلامى والكاتب الصحفى الكبير الأستاذ عبد اللطيف المناوى فى عموده فى «المصرى اليوم» إشكالية قياس الرأى العام الذى يحتكم إلى الـ«سوشيال ميديا»، وذلك فى ضوء التعامل «المريع» مع حفل مغنى الراب الأمريكى ذائع الصيت ترافيس سكوت، وهو التعامل الذى وبصراحة شديدة جعل سيرتنا على كل لسان، بالمعنى السلبى للعبارة.
والمسألة هنا لا علاقة لها بجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المنتشرة والمندسة بيننا بتكليف ذاتى من نفسها لنفسها، ولا بـ«قيم الأسرة المصرية» تلك الفزاعة التى نطوعها مرة ذات أقصى اليمين وأخرى ذات آخر اليسار رافعين شعار «ياختى كده ينفع، وكده برضه ينفع»، حيث ترتعد أوصالنا وتستنفر عروقنا حين يحمل أحدهم فكرًا مناقضًا لفكرنا، لكن لا تهتز شعرة لدينا حين نتبوأ أعلى المراتب فى قوائم التحرش أو نعرف أن السائح يخرج من عندنا مبهورًا بالآثار والشواطئ والتاريخ والنيل ويحتفظ بـ«لكن» كبيرة على مضايقات الصبية والشباب والرجال له ولزوجته.
الأمر يتعلق بالمعايير التى نعتمدها علميًّا لتكون مؤشرات حقيقية لتوجهات الرأى العام. المؤكد أن «السوشيال ميديا» باتت تصنع وتوجه وتغير الرأى العام، لا من خلال ملايين المستخدمين، بل عبر عشرات المستخدمين أو محترفى صناعة الرأى العام لصالح أصحاب أيديولوجيات أو توجهات أو مصالح معينين. من المؤسف جدًّا ألا ننتبه لما يحدث بنا وبيننا. نعتقد أننا نسيطر على مقاليد أمورنا والحقيقة عكس ذلك تمامًا. وما حفل ترافيس سكوت، والتعامل الصبيانى السطحى الكارثى معه، إلا نموذج يصلح أن يكون دراسة حالة. معرفة وقياس وتوجيه الرأى العام مسألة بالغة الحيوية لصالح السياسة والاقتصاد والأمن العام والسلم الاجتماعى والصحة النفسية والقائمة طويلة. الصالح العام يقول إن على «المهتمين» وضع قواعد علمية للتعرف إلى (أولًا) ثم قياس الرأى العام. جزء معتبر من الرأى العام فى مصر حاليًّا تدور رحاه على أثير الـ«سوشيال ميديا»، تعبيرًا وتوجيهًا. لكن الأمر أكبر وأعمق من ذلك بكثير، وكم من معرفة واستطلاع وقياس للرأى العام أنقذت مجتمعات قبل فوات الأوان.