بقلم - أمينة خيري
هى أم المعارك! ومن دونها لن يستمر انتصار وسيدوم كل انكسار. ويوم تنازلنا عنها وقايضناها بمروحة وقماش «ديولين» وكاسيت بروحين، انكسرت وانزوت وكلما حاولت أن تطل برأسها ضربناها ضربة قاسية وقاومناها مقاومة عاتية، وفضلنا عليها المسخ خالى المضمون والقبح المحمل بالديون.
ديون مصر الحقيقية ليست فى ديون خارجية متلتلة أو داخلية متواترة، لكنها فى استعادة الهوية المرهونة منذ ما يقرب من نصف قرن. فك الرهنية واستعادة الهوية ليس بالعمل الهين أو الإجراء البسيط. فأعقد ما فيه أن قطاعاً عريضاً من أصحاب الهوية المرهونة إما يعتقدون أن ما اعتنقوه من خليط ماسخ من هويات مستوردة هو الأصل، وقطاع آخر ينتفع ويفتئت ويتمسك بتلابيب المسخ الذى نعيشه لأنه لقمة عيشه ومصدر رزقه.
الرزق الذى يأتينا من حيث لا نحتسب لا يجب أن ندعه يمر هكذا، دون التفاتة أو انتفاضة. والرزق الذى تمثل فى حديث الرئيس السيسى قبل أيام عن استعادة الهوية المصرية التى «حاولت بعض الأيادى طمسها». وأزيد من الشعر بيتاً وأقول إن بعض الأيادى والعقول والجيوب بذلت جهوداً مضنية لطمس الهوية المصرية، وهى الجهود التى لم يكن لها أن تتكلل بهذا القدر من النجاح لولا هرولة ملايين المصريين لخلع الثوب المصرى الأصلى وارتداء جلباب لا شأن لنا به.
وشأن الهوية يفترض أن يكون شأن كل المصريين. لكن المفروض يختلف عن الواقع. والواقع يشير إلى أن قطاعاً عريضاً من الشعب بات متشبثاً بمزيج الهويات الواردة التى لا تشبهنا شكلاً أو موضوعاً. ربما يكون ذلك بفعل عقود مضت من تضاؤل مكانة مصر من حيث التأثير، وربما يكون استجابة لسنوات أو عقود أمضاها البعض فى حضن ثقافات مغايرة، وربما أيضاً -وهذا هو مربط الفرس- يعود لتلك الخلطة الجهنمية التى جعلت من الهوية «الجديدة» هوية دينية (رغم أنها ليست كذلك وإلا لتم تصنيف المصريين على مدار مئات السنين باعتبارهم كفاراً).
الخلطة الجهنمية الشيطانية التى شككت الملايين فى انتماءاتهم المصرية، وفتحت أبواب الكراهية لكل ما هو مصرى أصيل على مصاريعها، ودقت على أوتار القوى المصرية الناعمة المتآكلة من فنون وثقافة وأكاديميات وعلوم وغيرها، أدت إلى ما نحن عليه الآن من هجين ثقافى ومسخ فكرى لا معالم واضحة له أو ملامح محددة تميزه.
فمن فكر ممسوخ حول المرأة المصرية على مدار السنوات الماضية إلى رمز للجنس فقط لا غير، ثم جملنا المسخ بهالة من التديين ليبدو وكأن تحقيرها نعمة وتشييئها تكريم، إلى تغيير فى العبارات والمفردات المستخدمة يومياً بدءاً بتحية الصباح والمساء مروراً بكلمات الشكر وعبارات الثناء، ومنها إلى «فخفخينا» التناقضات المقيتة حيث تلال القمامة على مرمى حجر من باب الجامع، وجموع المتحرشين يرتعون فى محيط من يديرون الآيات القرآنية بأعلى صوت ويقيمون كل الصلوات فى مكبرات الصوت وينعتون غير المسلمين بأقبح النعوت وذلك دون أن تهتز لهم شعرة أو تمر بهم صحوة، وهلم جرا.
الهوية المصرية التى تخلينا عنها طواعية ودهسناها بأقدامنا يوم سمحنا لمعتوه بأن يسب سيدة الغناء العربى أم كلثوم ومعها العندليب الأسمر وذلك لأن الغناء حرام والحب حرام والعيشة حرام فى حرام، والتى لم نعرف قيمتها يوم استبدلنا بملابسنا القروية المزركشة وتلك التى نرتديها فى المدن بأناقة ورقى أثواباً لا تمت لنا بصلة، والتى بخسناها حقها حين تعاملنا مع الفن وكأنه رجس والثقافة باعتبارها إغواء والعلم على أنه اختيار.
اختار المصريون -حكاماً ومحكومين- فى عهود سابقة الطريق السهل الذى يصب فى فخ عميق، هو ذلك الذى نقبع فيه الآن.
والمسخ الذى قوبلت به دعوة الرئيس السيسى قبل ما يزيد على عامين لتجديد الخطاب الدينى حيث لا تجدد ولا حتى تمختر، هو نفسه ذلك المسخ الذى ستؤول إليه دعوته لاستعادة الهوية المصرية، وذلك إن لم نقتنص الفرصة ونتخذ منها مشروعاً قومياً لا يقل أهمية عن المشروع القومى للطرق والعاصمة الجديدة وغيرهما.
الرئيس تحدث عن عملية صياغة شاملة للإنسان المصرى تعتمد على الأبعاد الفكرية والاجتماعية والثقافية. وأخشى ما أخشاه أن تُترك الدعوة إما للزمن ليطمسها، أو للأشخاص والجهات التى تحتاج هى نفسها للتحديث والتطهير والتعقيم، فتكون النتيجة تكراراً للدعوة لتجديد الخطاب الدينى، ألا وهى: «ولا حاجة»!
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع