بقلم - أمينة خيري
المصابون بداء الهسهس الدينى يبذلون جهدًا جهيدًا لتصوير السجال الدائر بأنه بين «المؤمنين» و«غير المؤمنين». ومن كتب الله لهم النجاة من هذا الفيروس اللزج الذى ضرب مصر فى أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى، وكبس على أنفاسها وتمكن من أوصالها ومفاصلها حتى اليوم، يرونها حربًا ضروسا بين التفكير النقدى والتكفير النقضى.
وعلى النقيض مما ينبغى أن يكون عليه السجال أو الحوار، حيث يستمع كل طرف للآخر ثم يفكر قبل أن يرد، فإن الطرفين مستنفران متحفزان متربصان ببعضهما البعض. أهل الهسهس ترتعد أوصالهم وترتجف أطرافهم إن نادى أهل الفريق الآخر بما من شأنه أن يهيج مواطن هذا الهوس. يعترض أحدهم على صوت الأذان المرتفع، أو صوت المؤذن القبيح، أو الإصرار على بث الصلوات عبر مكبرات الصوت، فينعتونه بكراهية الدين ومعاداة الإيمان والترحيب بالرذيلة. يطالب آخر بعدم الإفراط فى العبادات على حساب المعاملات ويستشهد بما آلت إليه أحوال الناس فى مصر المتدينة فى نفس الوقت، الذى تدنت فيه الأخلاق وتحلل فيه السلوك، فيرمونه باتهامات تتراوح بين الإلحاد والإفساد.
وقد فسدت قنوات الحوار وتردت وسائل تجاذب أطراف الحديث بين الجبهتين. نظرة سريعة على مواقع «التواصل» الاجتماعى كفيلة بتشخيص أعراض الهسهس وكشف ضيق صدر الناجين منه. كلاهما يرى وجود الآخر تهديدًا له.
لم يعد الأمر جماعات إسلام سياسى تهدف إلى السيطرة على مفاصل الدولة أو الوصول إلى سدة الحكم، لكن واقع الحال يشير إلى خطاب دينى تُرِك يضرب يقلب على مدار عقود فاستلبه البعض لصالح التيارات المتشددة والمنغلقة والكارهة للآخر والمصابة بعقدة الفوقية، وسيطر عليه البعض الآخر باسم جماعات أنشأت دولة على هامش الدولة حيث علاج وسكن وصرف صحى ومياه شرب وتنشئة «دينية» لأغراض خاصة بتلك الجماعات.
ويخطئ من يعتقد أن إسقاط جماعة الإخوان فى عام 2013 أغلق باب التديين الغارق فى الانغلاق والمفرط فى الشعور بالفوقية على باقى خلق الله. بل العكس هو الصحيح. ومن يقنع نفسه بأن خطر ضرب الإسفين فى السلام الاجتماعى عبر نشر الفتنة وتوطيد الفرقة قد انتهى فهو واهم.
وهم التشعلق بتلابيب الطقوس الكثيرة والتفاصيل الدقيقة الكثيرة لحد الهوس باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الإيمان وضمان الطريق إلى الجنة ضارب فى أوصال المجتمع المصرى. ووصف هذا التشعلق بـ«الوهم» لا يعنى معاداة الدين أو كراهية المتدينين، لكنه يعنى معاداة إلغاء العقل وكراهية الإغراق فى الدروشة والبهللة على حساب المنطق. وقبل أيام، فوجئت بأستاذة فى كلية طب فى إحدى المحافظات وهى تحذر المجتمعات على مائدة الإفطار من أن المشاركة فى الموالد شرك بالله، وأن «إتيكيت» دخول الحمام حيث الدخول بالقدم اليسرى وترديد دعاء الخبث والخبائث قبل وبعد دخول الحمام واجب على كل مسلم ومسلمة، وقائمة طويلة من الأفكار التى كنت أعتقد إنها تتحدث عنها على سبيل السخرية من المصابين بالهسهس، فإذ بها الهسهس نفسه.
المسألة لم تعد تحديث خطاب دينى، أو حث القائمين على الأمر لتطهير الخطاب مما لحق به من هلا��س تدفع دفعًا إلى القاع. علينا أن نسلم بأن ما جرى فى مصر ليس بسيطًا أو هينًا، وأن «طناش» تطهير الخطاب إنما ينذر بخطر داهم، وإن ترك الأمر لفريقى «الناجون من الهسهس» و«المصابون» به ليضربوا فى بعضهم البعض، فإن الضرب سيكون للركب.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع