بقلم : أمينة خيري
قليل من «البحبحة» لا تضر بل تنفع. وبعض من التغريد خارج السرب يفيد ولا يقتل. وهامش أرحب من الكلام فى مسار غير المسار السائد لا يعنى بطرًا أو خيانة أو نكرانًا للإيجابيات أو إنكارًا للإنجازات، بقدر ما يعنى تنفيسًا وتعبيرًا، بل ضخ فيتامينات من شأنها أن تقوى ولا تضعف وحتى لو لم تفد فهى حتمًا لن تؤذى، وإن كانت الفائدة شبه مضمونة.
أنظمة الحكم الناجحة تأتى بشهادة ضمان. والبند الأول فى هذه الشهادة هو هامش الاختلاف وحرية التعبير والقدرة على الانتقاد فى حدود القانون وليس بحسب قواعد الهبد أو أهواء الرزع، بما فى ذلك ما تعلمته الغالبية على مدار عقد مضى من غش الإخوان وخداع أبناء عمومهم من الجماعات والأحزاب الدينية ونفاق أنصارهم فى الداخل وغدر داعميهم فى الخارج. إذًا قليل من البحبحة لن يضر.
الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة، تحتاج صمام أمان، أى قدرة على التنفيس، أى مجال للتعبير عن الضغط، أى مساحة لفش الخلق. وعلى الرغم من سعة صدر منصات السوشيال ميديا، وهو الاتساع الذى يزيد أحيانًا على اللزوم، ولا سيما أنه يحتضن الصالح والطالح، العالم والجاهل، الساذج والخبيث.. إلا أن إتاحة هامش للبحبحة على شاشة التلفزيون أو مقالات وأعمدة صحفية أو برنامج إذاعى أو كل ما سبق يجعل للبحبحة مذاقًا مختلفًا، يكسبها رونقًا إضافيًا، ويصقلها ويصقل المجال العام والبيئة المحيطة وسائر المجتمع بطبقة ذهبية من الحرية والبراح الفكرى.
هذه الإتاحة تضرب «عشروميت» عصفورًا بحجر واحد. فهى تخبر المواطن أن من حقه أن يسمع شكواه وأنينه على المنصات العامة التقليدية التى مازالت تحظى باليد العليا (نسبيًا) فى عالم الإعلام والاتصال. كما أنها عادة لا تكتفى بسماع الأنين، لكنها تقدم ضمادات بها توليفة من المسكنات تتراوح بين الشرح والتفسير والتحليل من جهة، وبين استشراف المستقبل بناء على معلومات وخبرة فى القضية موضوع الحوار من جهة أخرى.
كما أن الإتاحة لها قوة امتصاص فولاذية، حيث جزء من العلاج يكمن فى البوح، شأنه شأن العلاج النفسى.. البوح بالمشكلة، والبوح بالأعراض، والبوح بالمخاوف، والبوح بالمشاعر.. والبوح المنظم على منصات الإعلام التقليدى يختلف عنه على منصات الهبد الحديث.. لماذا؟ لأنه يظل يتمتع بقدر ولو بسيط من القدرة على التنظيم ولا أقول التقييد.
والتقيد المفرط بنبرة واحدة ونغمة واحدة وإيقاع واحد مهما بلغت من صدق وروعة وإبهار تفقد بريقها بعد فترة وإن طالت. الإنسان بفطرته يحب التنوع ويميل إلى الألوان المختلفة. الأسود طيلة الوقت مهما كان وقورًا يُميت، والأبيض طيلة الوقت مهما كان ملائكيًا يُمِل.
ولا أعتقد أن «بحبحة» المجال بعض الشىء لأصوات تغرد خارج السرب فيها أزمة أو تؤدى إلى كارثة. والرئيس السيسى نفسه يغرد خارج سرب المهيمنين على الخطاب الدينى الرجعى مثلًا.. فلماذا لا نقتدى به؟!.