بقلم : أمينة خيري
مصر مصدومة وحزينة وفى حداد. والحداد مستمر لآخر العمر في بيوت من راحوا. لا تعويضات ستخفف الحزن، ولا تعازى وتعاطف سيعوض من راحوا.. لكن التعويض الوحيد الذي يمكن أن يخفف نسبيًا من فداحة ما جرى هو النظر في تفاصيل الفاجعة، هو النظر في التفاصيل المحيطة بها، وربما تفادى تكرارها عبر طريقتين: الأولى، علاج ما يمكن علاجه، فالمرض حين يستفحل ويتمكن تصبح حلحلته شبه مستحيلة. والأخرى، هي فهم ما جرى في مصر على مدار عقود.مفهومنا عن الأمن والأمان والصيانة الدورية يجب تعديله. خذ عندك مثلًا شارع دأب قائدو السيارات على السير فيه عكس الاتجاه، وفى كل يوم يقع حادث ويُدهس شخص ويُصاب آخرون. وفى كل مرة، يتم رفع آثار الحادث وتُقدم التعازى للمقتولين والعلاج للمصابين، وتعود الحركة لطبيعتها انتظارًا لحادث جديد.. لماذا؟ لأن السير العكسى مستمر.
مكان عمل أو مقهى أو دار عبادة يتردد عليه المئات، يحتاج دون أدنى شك لمعايير سلامة شبيهة بالأمن الصناعى: بشر مدربون على التدخل السريع في حال حدوث حريق أو زلزال أو ماس كهربائى.. إلخ، وأدوات يتم التأكد دوريًا من صلاحيتها للاستخدام، ووجود بشر مدربين على استخدامها.. وكلمة السر هي «دورية»، التأكد من صلاحيتها ووجود من يعرف استخدامها.
يا فرحتى بطفاية حريق في سيارة مركونة منذ سنوات، وحين يشب حريق يتضح أنها فارغة أو لا تعمل. كما أن «تلصيم» الأجهزة المعطلة عبر فنى لا يفقه ألف باء الإصلاح ما هو إلا «تلصيم» للأرواح التي ستُزهق لا محالة، إن لم يكن غدًا فبعد غدٍ. والدعاء وحده بالستر والحماية من الكوارث لا يُجدى، لأننا مطالبون بأن نعقلها قبل أن نتوكل.
وحين توكل المصريون قبل عقود وقرروا أن يكون الإنجاب غايتهم وضخ العيال بلا هوادة أسمى أمانينا، وتعاطف موظفون مع الضخ الهائل الذي استوجب غزوًا للأراضى الزراعية ونزوحًا من الريف، ولا سيما في ظل نقص الخدمات وشُح الفرص صوب أطراف المدن، فغضوا الطرف (وكله بثمنه) عن البناء المخالف والتمدد العشوائى حتى أضحى دخول سيارة مطافئ أمرًا شبه مستحيل في العديد من الشوارع.
وسكت الكبار على ذلك ضمانًا لسكوت الصغار وبقاء الحال على ما هو عليه، وبقاء هؤلاء في الحكم، وأولئك في سبل الحياة التي تمليها العشوائية وانعدام الضمير وإجهاض الوعى.. حين حدث هذا منذ سبعينيات القرن الماضى أدى إلى ما نحن فيه اليوم من كوارث معيشية وحياتية. تغلب العدد على النوعية، وتم ترجيح كفة الكم على حساب الكيف. وولدت أجيال من رحم الفكر العشوائى وهى تعتقد أن عشوائية الفكر أسلوب حياة. ألم تكن تلك جرائم أولى بالمحاسبة من «هدايا الأهرام» و«فيلات شرم الشيخ»؟!.
الحقيقة أن منظومة «تم رفع آثار الحادث وعودة الحركة المرورية» صارت بغيضة.