بقلم - أمينة خيري
استغاثة من منتصف الهرم.. هذه المرة يأتى طلب الغوث لا من قاعدة الهرم حيث الفقراء والغلابة وأبناء السبيل، ولا من قمته حيث رجال ونساء البيزنس والأعمال بأنواعه، إنها استغاثة طال كتمانها، واستمر أمدها حتى بلغ سيل الضغوط والهموم الزُّبى.
وزمان قال العرب أن الزُّبية هى الحفرة التى تحفر للأسد إذا أرادوا صيده، وهذه الآونة قالوا إن رمانة الميزان وصمام الأمان وضمان الاستقرار الاجتماعى هى الطبقة المتوسطة القابعة بكل إباء وشمم فى منتصف الهرم الطبقى. لكن الصراع الطبقى المكتوم الدائرة رحاه على مدار العقود الماضية بلغ أقصاه هذه الآونة، حيث ضمان اجتماعى لـ«الناس إللى تحت» وأمان الحسابات المصرفية والودائع البنكية فى الداخل والخارج لـ«الناس إللى فوق»، وهرس ودهس وسحل للمضغوطين بينهما. وبين الإجراء الاقتصادى والآخر، ودواء الإصلاح المر والثانى، وخطوات فطم الشعب عن صدر الحكومة المعطاء ومكملات الدولة الغذائية والمقوية، تتعرض تلك الطبقة لمزيد من الفرم والضغط، فهى فى نظر «الناس إللى تحت» فئات منعمة من البشر، لديها سيارة ملاكى وشقة سكنية تمليك والأبناء فى مدارس خاصة وربما دولية. وهى فى منظور «الناس إللى فوق» ناس مثلها كبقية الناس إذ لا يعنى الطبقة المخملية الكثير فى شأن ما يحدث لبقية سكان الهرم.
أما أنظمة الإدارة والسياسة فتعتبرها طبقة مقاتلة مكافحة تتحمل الضغط وتتجرع المصاعب، وفئة مهذبة متعلمة ليس لها فى إثارة الشغب أو الدعوة إلى البلبلة. فغاية طموحها تعليم الأبناء تعليماً جيداً، والعيش فى مستوى معقول، لا هو بالفاره ولا هو بالمعوز، وربما قليل من الترفيه حيث يومان فى فندق فى العين السخنة أو وجبة فى مطعم معقول أو خروجة منزوعة التحرش خالية من السوقية. ولأنها طبقة مسالمة، فكل همها المحافظة على مكتسباتها المتمثلة فى وظيفة معقولة تدر دخلاً معقولاً يضمن معيشة معقولة وتعليماً معقولاً وعلاجاً معقولاً وقدراً معقولاً من الترفيه المعقول، فهى تفكر مرتين وثلاثاً وأربعاً قبل أن تقدم على عمل أو قول أو حتى تفكير قد يسلبها هذه المكتسبات التى ينحتون فى الصخر من أجل ضمانها.
لكن إجراءات الضمان الاجتماعى التى تتخذها الدولة فى ضوء إجراءات الإصلاح الاقتصادى التى تسلم الغالبية المطلقة من أبناء وبنات هذه الطبقة بحتميتها من أجل تعافٍ اقتصادى دائم وبناء على «مياه بيضاء» يدوم وينمو ويزدهر، تنحل المزيد من وبر سكان منتصف الهرم.
ومن منتصف الهرم يقول السكان إن رواتبهم (وأغلبهم يعملون فى القطاع الخاص) لا تزيد، بل بعضهم تقلصت رواتبه وتم تخييره بين الرضا والرحيل فى خلال السنوات السبع الماضية العجاف. وتتردد شكاوى مفادها أنهم يتكفلون بأنفسهم وبأبنائهم، ويضمنون للدولة مظهراً وجوهراً متحضراً، ويمضون قدماً فى مسيرة العلاج الاقتصادى ساكتين ساكنين مسَلِّمين بقضاء الإجراءات وقدر العلاج، لكنهم باتوا يعانون الأمرين هذه الآونة. جانب من المعاناة يعود إلى الوضع الاقتصادى الدائرة رحاه على الجميع، حيث غلاء مطرد للأسعار وعدم وجود بدائل للشراء مع صعوبة اللجوء مجدداً إلى السلم الهابط إلى أسفل، فالقاعدة كاملة العدد، بالإضافة إلى أن سكان القاعدة يتمتعون بأشكال من الضمان الاجتماعى والغوث الاقتصادى غير المخصصين لسكان منتصف الهرم.
الجانب الآخر من المعاناة يقبع فى مظاهر وظواهر الاحتقان الطبقى الواضحة وضوح الشمس. وهو الوضوح الذى بدأ يتخذ أشكالاً أكثر جرأة وأوضح تعبيراً. فضعف تطبيق القوانين فى الشارع والسكوت على الانفلات الأخلاقى والسلوكى المتلحفين بالدين والتدين جعلا من أبناء الطبقة المتوسطة لقمة سائغة لمن يرى فى فقره مبرراً للتعدى على من يبدو أيسر منه حالاً، أو من يعتبر تدينه المظهرى حجة للسطو على من أفتاه شيخ زاويته بأنه أقل منه إيماناً، وهلم جرا.
بمعنى آخر، يقول أبناء الطبقة المتوسطة الذين يعانون من إجراءات الإصلاح ورغم إيمانهم بحتميتها، إنهم لا يجدون من يحنو عليهم. فـ«الحكومة» تركتهم يدبرون أمورهم وكأنهم «أينشتاين» فك رموز تقلص الدخل وتفسير لوغاريتمات تدنى الوضع. أولئك دخولهم محدودة. صحيح أنها مرتفعة -أو بالأحرى كانت مرتفعة- لكنها لم تعد كذلك. فلا هم يسرقون التيار الكهربائى فيوفرون فواتيرها، ولا هم يعتبرون تعليم الأبناء والبنات رفاهية فيتوقفون عن إرسالهم للمدارس، ولا هم أرانب قررت الدخول فى سباق للأكثر إنجاباً على اعتبار أنها إرادة الله.
الله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نعقلها ثم نتوكل. وأبناء الطبقة المتوسطة حالياً فى مرحلة التعقل لكنهم متعطلون هناك. يحاولون تعقلها تارة من اليمين وأخرى ذات اليسار، لكن الوضع بالغ الصعوبة. وصعوبته -كما ذكرت- لا تقتصر على الصعوبات المعيشية فقط، والهبوط من فئة إلى فئة أدنى فى الهرم الاجتماعى، لكنه يكمن فى نظرات وتصرفات أبناء قاعدة الهرم والمصوبة تجاه «صمام الأمان».
مزيد من النحت فى هذا الصمام يعرضه للتلف ويدفعه للسلف!
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع