هذه اللافتات المليونية فيها سم قاتل. وهو سم سريع المفعول لا يستغرق وقتًا أو يتطلب جهدًا. ولأنه قاتل، فإن آثاره يصعب أن تمحوها السنوات أو الجهود أو حتى الإنجازات. وكنت قد كتبت قبل أسابيع تحت عنوان «لافتات تأييد الرئيس» مناشدة للرئيس بأن يوجه الشكر لكل من يطبع لافتات أو ينشر إعلانات، ثم يطلب منهم أن يتوقفوا عن ذلك. وعرضت أن يقترح الرئيس على من يود أن يعبر عن دعمه وتأييده ماديًا أن يخصص هذه الأموال لأحد المشروعات الإنتاجية أو المستشفيات العلاجية أو الصناديق المخصصة لتأمين الفئات الأولى بالرعاية.
إلا أن الأيام القليلة الماضية شهدت توسعًا فى اللافتات، وتضخمًا فى الشعارات، وتزايدًا فى المساحات. وقد وصل الأمر إلى درجة التضييق على المارة واحتلال مساحات شاسعة ودق الأعمدة الخشبية الضخمة على الأرصفة بشكل يعيق مرور المواطنين تمامًا من أجل تعليق اللافتات التى يعلن أصحابها دعم الرئيس لإكمال المشوار.
مشاوير المصريين جيئة وذهابًا فى أرجاء المحروسة تسفر عن عودة إلى بيوتهم مشبعة بمشهد اللافتات التى تعدت مرحلة المعقول إلى مرحلة اللامعقول، وهى المرحلة التى مهدت الطريق لبعض «الخبثاء» إلى القول بأن أوامر أو فلنقل توجيهات تصدر لأصحاب المحلات والمصانع بطبع هذه اللافتات وتعليقها، وهو ما لا يليق بنا كشعب ولا برئيسنا الذى اخترناه بأغلبية كاسحة رغم أنوف الكارهين فى الداخل والخارج.
وخارج إطار الانتشار الدعائى والانشطار الإعلانى، فإن رد فعل قطاع من المارة بدأ ينقلب إلى الضد. فالتعبير عن الحب فيه الكثير من الجمال والرقى. وبذل الجهد من أجل دعم رئيس أنقذ البلاد والعباد فى لحظة فارقة كادت تدفع مصر إلى الهاوية أمر محمود ومقبول. لكن هناك خطا فارقا وفاصلا بين المشاعر الحقيقية والحملات المنظمة، وهو الفارق نفسه الذى يفرق بين من يقتنى قطعة فنية مصنوعة يدويًا بكثير من الشغف والإبداع، ومن يقتنى قطعًا تجارية ينتجها المصنع بالآلاف فتخرج وكأنها قطع صماء لا حياة فيها ولا نبض.
نبض الشارع ينبغى أن يكون وحده المقياس. ونبض الشارع يفرق جيدًا بين لوحة صغيرة بدائية مكتوبة بخط اليد تضعها سيدة عادية على شرفة منزلها خطت فيها أسبابها الشخصية التى ستجعلها تنتخب الرئيس السيسى لفترة رئاسية ثانية مع إمضاء «أم مصرية»، وبين لافتة شاهقة مثبتة أعلى رؤوس المارة تحمل شعارات منتشرة فى كل مكان ومعلنة تأييد صاحبها الذى تناطح صورته صورة الرئيس فى إهانة واضحة لفهم المواطنين واستهانة بالغة بمشاعرهم.
مشاعر المصريين لا يفهمها إلا المصريون. قد تعمل أحيانًا ضد المنطق، وتسير ربما فى طرق وعرة تدفعهم إلى حافة التهلكة لكنها تعود لتدفعهم بعيدًا عن هوات سحيقة يسببها مرض كذلك الذى أصابهم واسمه «هسهس التديين»، أو تنتج عن تراكم سنوات من القهر والفساد والظلم. وعلى الرغم مما أقبل عليه البعض من «تصويت انتقامى» وآخر «عنادى» وغيرها من عوامل تسيير وتحديد دفة الانتخابات التى ظهرت فى مصر فى سنوات ما بعد ثورة يناير، والتى ازدهرت وترعرعت فى أجواء الاستقطاب الرهيب، إلا أن البعض ممن هم فى مواقع المشورة نسوا ذلك.
وأغلب الظن أن ذلك لن يحدث فى الانتخابات المقبلة، لكن ما قد يحدث كرد فعل لهذا الإغراق الدعائى هو عزوف عن النزول والمشاركة، وهو احتمال قائم أصلاً فى ضوء ثقافة مصرية صميمة تعتبر المشاركة فى الاستحقاقات الانتخابية أمرًا لا يعنيها. وتجدر الإشارة إلى أن استحقاقات ما بعد ثورة يناير تظل الاستثناء وليست القاعدة.
والقاعدة التى ينبغى أن يتذكرها كل من يهتم بالشأن المصرى هى أن الغالبية العظمى من المواطنين يعتمدون على حس فطرى وشعور طبيعى فى تسيير أمور حياتهم، والمشاركة فى الانتخابات ليست استثناء. صحيح أن للإعلام دورًا كبيرًا، والأحداث السياسية والأمنية عامل مؤثر، والحس الوطنى سيد قائد وليس عبدًا تابعًا، إلا أن هذا الحس الفطرى وذلك الشعور الطبيعى يمكن أن يميلا إلى سكة العناد أو طريق الإعلان عن استياء وتململ من مبالغات لا يحبونها.
الحب والكره، والاستلطاف والاستثقال لا ينبغى أن تكون ضمن مفردات الاختيار السياسى. هكذا يقول المنطق. لكن من قال إن المنطق سائد؟! هناك من يكره من يملى عليه توجهات بعينها. وهناك من ينفر من مبالغات فى الإعلان عن دعم وتأييد. وتشجيع الناخبين على النزول بغرض المشاركة لا يمر عبر طريق المبالغة والمغالاة والإسراف والشطط. لكنه يمر عبر توعية بمعنى المشاركة فى الانتخابات، أى انتخابات.
تقول أبجديات العلوم السياسية إن المشاركة فى الانتخابات حجر زاوية أى ديمقراطية، وكلما انخفضت نسبة المشاركة انخفض تصنيف الدول ك«ديمقراطية». واقتصار عملية التصويت على فئات اجتماعية واقتصادية وتعليمية تعنى أن هناك عوارًا فى المجتمع وفى درجات الوعى. والمشاركة فى الانتخابات هى عملية تعليمية. وربط النزول من البيت والتوجه إلى صندوق الانتخاب بفائدة مادية مباشرة فساد وإفساد للعملية الديمقراطية. أما القول بأهمية النزول حتى لا نضع أنفسنا فى وضع محرج أمام الغرب أو الشرق فسم قاتل آخر غير سم المبالغات الدعائية.
هذه السطور لله والوطن والرئيس.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية