بقلم : أمينة خيري
على غرار قوائم «الأكثر قراءة» و«الأكثر تشاركاً» و«الأكثر تعليقاً» التى نجدها على المواقع الإلكترونية، والتى تلخص للمهتمين والقائمين على أمر المواقع اهتمامات القراء وأولوياتهم، لماذ لا نفكر فيما يمثل «الأكثر مدعاة للاهتمام ومثاراً للتعليقات» بين جموع المصريين؟!
جموع المصريين ليسوا فئة واحدة كى نحبسهم فى خانة يتيمة، ويخطئ من يعتقد أن الهم الشاغل هو لقمة العيش فقط، أو متابعة الأهلى أو الزمالك فقط، أو الانغماس فى موسيقى المهرجانات أو منصاتها التحليلية فقط، أو التربص بمجموعات الإخوان أو تصيد جموع المؤيدين للدولة فقط. معرفة ما يشغل أدمغة المصريين مفيد جداً لشن الحملات التوعوية وعمل البرامج التليفزيونية وتخطيط الخطط المستقبلية، ومعرفة ما يشغل البال فى هذا الصدد ليس المقصود بها «إرضاء الجمهور»، بمعنى آخر التعرف على ما يدور فى بالنا من أفكار لا يهدف إلى تغذية هذه الأفكار وتقويتها لنيل رضا المواطنين.
الأشهر القليلة الماضية وما تحويه من نقاشات وسجالات فى الشارع وعلى منصات التواصل الاجتماعى يكشف لنا أن الجزر المنعزلة كثيرة ومرشحة للزيادة. خذ عندك مثلاً، آفة التكاثر السكانى الرهيب، هى آفة تضرب بعنف ملايين الأسر المصرية المغيبة بفعل أفكار بالية بأن «العيل ييجى برزقه» وأن «العيل رأسمال عبر تشغيله طفلاً على توك توك أو فى ورشة أو فى التسول»، أو تحت وطأة مشايخ يبثون سمومهم فى أدمغة البسطاء بأن تنظيم الأسرة حرام. فى الوقت نفسه، يطل علينا الإعلام بفقرة هنا أو مقال هناك عن مغبة الانفجار السكانى، ويذرف البعض منا الدمع على أثير حائط المبكى المعروف بـ«وسائل التواصل الاجتماعى» بسبب الملايين التى يتم ضخها فى مصر لتستنزف أموال دافعى الضرائب وجهود النظام السياسى فى البناء والإصلاح. لكن تبقى الآفة منتعشة مزدهرة فى أرضها دون أن يمسسها أحد.
مثال آخر هو الفوضى المرورية، التى هى فى الأساس فوضى سلوكية وأخلاقية، والتى تضرب بعنف على مدار اليوم كل شارع وميدان، الغالبية العظمى تضرب بقوانين المرور عرض الحائط، من سير عكسى إلى عدم التزام بحارة مرورية إلى تخطى السرعات إلى وقوف فى الممنوع إلى آخر القائمة المعروفة. إدارة المرور من جهتها تحاول أن تحرر محضراً هنا أو تحصل مخالفة هناك، لكن الآفة -وهى الجهل بالقواعد والقوانين أو معرفتها ولكن ضرب الحائط بها- تبقى القاعدة المعمول بها فى الشارع، ويشير الإعلام إلى المشكلة بين الحين والآخر، ولكن دون الدق على العصب، وتبكى القلة إياها على حائط الفيس بوك ناعية من يموتون على الطريق ومتضرعة إلى السماء ليتم تطبيق القانون من حذافيره، حتى وإن تطلب ذلك سحب الرخص التى تم إصدارها لملايين لا تعرف الألف من كوز الذرة فى القيادة.
مثال ثالث عن القمامة والقذارة والنظافة. أسوار المدارس الحكومية عامرة بعبارات «النظافة من الإيمان» وعلى مرمى حجر تلال القمامة ومعها أسراب الذباب والفئران وغيرهما من الكائنات ترتع فى سعادة وامتنان، ست البيت تفاخر ببيتها الذى يلمع من فرط المسح والكنس، لكنها لا تفكر مرتين قبل أن تلقى بأمعاء السمك وقشر الطماطم وريش الدجاج من نافذة المطبخ لتستقر فى «منور» العمارة. آكلو الحلويات والسندوتشات وغيرها فى الشارع ومقزقزو اللب والسودانى لا يعتبرون التخلص من بواقى الطعام على الأرض قذارة، بل هو تصرف عادى ومقبول.
مثال رابع عن اللكلكة والإهمال فى العمل، سواء كان إدارياً أو حرفياً أو خدمياً. اللكلكة أسلوب حياة، والإهمال راية وغاية. والغريب أن كليهما لا يتعارض ومفهومنا عن أنفسنا بأننا «متدينون بالفطرة»، والأغرب أن كل مهمل يلعن المهملين الآخرين ويحسبن عليهم دون أن ينتابه الشك فى أنه ضمن المستحقين للحسبنة.
لماذا لا نجهز كشفاً يتضمن النقاط العشرة الأهم والأولى التى يتوجب علينا الاهتمام بها كى نسهم فى «إعادة بناء الإنسان المصرى» ليتمكن من مواكبة حركة الإعمار والإصلاح الدائرة رحاها فى كل ركن من أركان مصر؟ وفى ضوء هذه النقاط، يتم وضع تصور شامل تضطلع فيه مؤسسات الدولة ودوائر الفنانين والمثقفين والجمعيات الأهلية والمتطوعون والمتطوعات مع وضع خطة زمنية لبدء جنى الثمار؟
الثمار المقصودة هنا ستكون بناء عقلية نقدية جديدة، وثقافة قائمة على المعرفة والقدرة على التعلم فى مراحل الحياة المختلفة، واعتبار القوانين المنظمة منفعة لصالح الجميع وليست قيداً ينبغى خرقه، وامتلاك الشجاعة الكافية التى تجعلنا نعترف لأنفسنا بأن المعايير المزدوجة قاتلة وغيرها من المنافع القادرة على بناء مجتمع متحضر فعلاً لا قولاً.
أقول قولى هذا وأنا على يقين بأن أصواتاً ستتحجج باستحالة تحقيق المرجو بدون إصلاح سياسى شامل، وعودة الحياة الحزبية، ورفع القيود عن حرية التعبير، وفك الارتباط بين الإعلام والدولة وغيرها من المطالب المهمة، لكنى لا أعتقد أن ما سبق يمنع فعلياً عن إعادة بناء المواطن المصرى وتنفيذ القوانين المجمدة، وذلك بعد تحديد أوجه المجالات الأكثر إلحاحاً.