تتردد فى الشارع هذه الآونة عبارة «إحنا متسلمين تسليم أهالى»! وهى عبارة لو تعلمون دالة ومرعبة، دالة لأنها تعكس أن الوضع بالغ السوء، ومرعبة لأن كل من يستخدمها يقصد معانى مختلفة عن الآخر.
المزاج العام هذه الأيام ليس على ما يرام، ونبرات التفاؤل وتشجيع النفس والآخرين على التحمل والنظر إلى المستقبل لم تعد واضحة كما كانت، والشعور العام بالضغط الشديد بات واضحاً، والمسألة ليست تذكرة مترو زاد سعرها فقط، أو أقاويل تتردد عن زيادات فى البنزين والكهرباء وما خفى كان أعظم، كما أنها ليست فى ضبابية رؤية تتعلق بالتعليم، أو غموض وضع خاص بتفاصيل الحياة اليومية التى يسودها قدر هائل من الفوضى والعشوائية فقط، الوضع برمته ليس بخير.
هناك قدر كبير من التبرم بين المصريين، كل فى مجاله وكل لأسبابه، لكن المحصلة النهائية هى أن الحال لا يسر عدواً أو حبيباً، أعداؤنا نعرفهم جيداً ولا نريد أن ندخل فى مهاترات بأن كل من انتقد وضعاً أو اعترض على حال هو إخوانى أو كاره للبلاد، جموع المصريين الذين تجرعوا المر على مدار سنوات ما بعد ثورة يناير 2011، بسبب مؤامرات خارجية أو خيانات داخلية، أو ضريبة انسحاب الدولة على مدى عقود لصالح جماعات وجمعيات أخذت على عاقتها مهمة إطعام قطاعات من المصريين، وتعليمهم ورعايتهم صحياً والسيطرة على أدمغتهم فكرياً، أو حتى فى تجرع الدواء المر من إجراءات اقتصادية شديدة الصعوبة يجدون أنفسهم اليوم بلا سند أو داعم.
الدعم المطلوب ليس دعماً عينياً عبر بطاقة تموين أو مالياً للأسر الأشد فقراً فقط، والسند المنشود ليس فى جمعية تشحذ عليهم وتتسول باسمهم وباسم مرضاهم كما يحدث بشكل بالغ على مدار الساعة الرمضانية، وأظن أن ما أظهره هذا الشعب من جلد وصبر فى هذه السنوات السبع العجاف من شأنه أن يبهر الجميع، لكن توقع المزيد من الجلد والصبر لا سيما فى ظل انطفاء الضوء المرجو فى نهاية النفق أمر خطير لأنه غير وارد.
لم يكن من الوارد أو المتوقع أن نحقق نهضة اقتصادية عظمى يشعر بها الشعب فجأة، كما لم يكن من المنتظر أن ينصلح ما انعوج من أمور بين سنة وضحاها، لكن كان المتوقع أن تظهر مؤشرات تقول للشعب بطريقة أو بأخرى إن تغييراً ما إيجابياً طرأ على حياتهم، قد يكون هذا التغيير ضبطاً وربطاً فى الشارع، أو سيطرة حقيقية على أسواق جن جنونها وتجار باتوا يرفعون أسعار السلع والمنتجات خارج سياق المنطق، أو تحسناً فى خدمات حكومية من تجديد رخص وإنهاء أوراق نقل الأبناء من هذه المدرسة إلى تلك أو ما شابه.
توقع المصريون حياة صعبة فى تفاصيلها الاقتصادية لكن تسير نحو انفراجة من حيث ضبط أمورهم الحياتية تدريجياً، لكن طال الانتظار، ولم تتحقق سوى التفاصيل الاقتصادية الصعبة، أو بالأحرى بالغة الصعوبة دون محفزات أو مقويات تساعدهم على تجرع الدواء المر.
صحيح أن الرئيس يوجه بين الحين والآخر بالسيطرة على الأسعار، وصحيح أن الأخبار تطالعنا بين الوقت والآخر بتوجيهات وزارية بسيارات متنقلة تبيع سلعاً غذائية مخفضة، لكن هذا لا يكفى أبداً، مع العلم أن المتضررين لم يعودوا فقط تلك الطبقات القابعة فى قاعدة الهرم، بل امتدت لتصل إلى متوسط الهرم، هذه الطبقة المتوسطة (الله يرحمها) متروكة نهباً لسعار الأسعار وجشع التجار، والجميع متروك لشيوع البلطجة والعشوائية فى تفاصيل الحياة اليومية، وهو شيوع فهمه البعض بأنه رسالة من الدولة مفادها أن من يقدر على البلطجة فليكن، ومن يجد فى نفسه الموهبة ليضيف إلى بحر العشوائية فمرحباً.
والترحيب بالطبع هنا ترحيب رمزى متمثل فى تركنا نخبط فى بعضنا البعض، عربات كارو على طريق السويس، توك توك فى أرقى أحياء القاهرة، رشاوى لإنجاز الأعمال الصغرى، سياس يسيطرون على الشوارع، جيوش مجيشة من المتسولين والمتسولات فى كل حدب وناصية، إشارات مرور تكلفت ملايين معطلة عن العمل، عربات مترو أنفاق (الخطين الأول والثانى) وكأنها سوق الثلاثاء، أسواق لا كبير لها إلا كبار التجار، إعلانات رمضانية ترسل رسالتين لا ثالث لهما: أننا أمة من الفقراء والمتسولين ولا تعتمد إلا على أموال وأطعمة وعلاجات أهل الخير تهيمن عليها جمعيات تتلقى تبرعات بالمليارات، أو أننا أمة من المليونيرات حيث نجوم الفن والكرة وإعلانات مليونية تثير غضب الشعب وحنقه.
هناك شعور عام بالسيولة، وهى بالطبع ليست سيولة مادية، لكنها سيولة معيشية، فلا مستقبل التعليم واضح، أو حاضر الأسعار مفهوم، أو رؤى ما عشمنا به أنفسنا من تجديد خطاب دينى أو تطبيق قانون أو ضبط زوايا الوطن بوجه عام مفعلة.
ولهذا تتردد عبارة إننا «متسلمين تسليم أهالى» تارة قاصدين التجار، وأخرى من بيدهم تطبيق القانون لكنهم لا يفعلون، وثالثة لمن ظننا أنهم سيطورون ويحدثون لكنهم رافضون متشبثون بالماضى السحيق، ورابعة كل ما سبق!
المصدر : جريدة الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع