بقلم - أمينة خيري
بعد كثير من المراجعات الذاتية والتصحيحات الفكرية، توصلت لنتيجة مفادها أننا جميعاً محبوسون فى دائرة مفرغة، فالفوضى الشارعية التى تشكو منها الأقلية وتستمتع بها الأغلبية سببها أن من هم مسئولون عن تطبيق القوانين لا يطبقونها، بل يكتفون إما برمى الكرة فى ملعب «السلوك البشرى الخاطئ»، أو يناشدون المنتهكين والفوضويين والعشوائيين احترام القوانين التى لم يسمعوا عنها من الأصل، ومن تٌطبق عليهم القوانين يكرهونها ويعتبرونها ظلماً عاتياً أو تقييداً مريعاً لحرياتهم، والبعض من الخبثاء يلوح بأن من ضمن الضاربين بالقوانين عرض الحائط هم المنوط بهم تنفيذ القوانين أنفسهم، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قيام البعض من ضباط الشرطة بالقيادة عكس اتجاه السير، أو إيقاف سياراتهم فى الممنوع، أو نزع لوحة أرقام أو ما شابه، ونذكر كذلك منظومة «كل سنة وأنت طيب» التى تستبدل مخالفة وقوف فى الممنوع بعشرة جنيهات تدس فى يد الأمين الممسك بدفتر المخالفات، والأمثلة كثيرة وليست حكراً على قطاع دون غيره، خذ عندك مثلاً سائق التاكسى الأبيض الذى أطرب أذنى وأسعد قلبى وأبهج عقلى حين وصف كل زميل يدعى أن عداده متعطل طمعاً فى بضعة جنيهات إضافية هو «حرامى»، لكن السعادة عمرها قصير، فما إن أشارت له سيدة حتى توقف لها غير عابئ بأن هناك راكباً ما فى المقعد الخلفى، ألا وهو أنا، وقد عضد وقوفه هذا بحديث شريف ردده على مسامعى ببطء شديد حتى أستوعب معانيه، بينما السيدة تركب إلى جوارى عنوة، «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال»، ثم أخذ يفسر لى المعنى، فقال إنه هو العبد، والنعمة هى التاكسى، وأما حوائج الناس فتتمثل فى السيدة، والمقصود بالتبرم هنا هو أن يرفض السائق أن تنضم إلينا، وهو ما قد يعرض النعمة (أى التاكسى) للزوال.
وبعيداً عن انبهارى بهذه القدرة الفائقة على التفسير، فقد دخلت فى متاهات فكرية وجدليات ذهنية حول طريقة حساب العداد الذى كان قد قفز إلى رقم 23 جنيهاً لحظة ركوب السيدة، وحول أسباب حشر أكثر من راكب فى تاكسى رغم أن عدد التاكسيات أكثر من الهم على القلب، وعن الفرق فى هذه الحالة بين التاكسى والميكروباص، لكن أبرز ما قال السائق هو أنه فى حال احتكمت إلى الشرطة لتحاسبه على الجمع بين أكثر من راكب فهذا يعنى أننى لا أشعر بمتاعب المواطنين والضغوط الاقتصادية التى يرزحون تحتها، وفى حال أخذت الشرطة موقفاً عقابياً -وهو ما استبعده السائق تماماً- فإنها ستكون قوة ظالمة تعكس توجهات حكومية غاشمة.
وقد أيدته السيدة فى كل كبيرة وصغيرة قالها، وذلك على الرغم من أن حديثها كان مليئاً بشكاوى من الفوضى التى نعيش فيها والعشوائية التى تتركها السلطات ترتع فى كل ركن من أركان حياتنا، حياتنا التى تسير فى دوائر مفرغة كثيرة لم تعد فيها حقيقة واضحة مؤكدة سوى أنها عشوائية بامتياز وفوضوية باقتدار، زمان قيل عنا إننا شعب IBM، أى «إن شاء الله» (دلالة على تسويف الأمور وعدم الارتباط بتوقيتات ثابتة) و«بكرة» (دلالة على أن كل شىء يحتمل التأجيل والانتظار) وأهمها جميعاً «معلش» حيث لا عقاب ولا محاسبة، فقط معلش، وقد توالت العقود وصرنا هكذا، مسخ قانونى، حيث نتظاهر بأن لدينا قواعد وقوانين، لكن لا المنوط بهم تطبيقها يؤمنون بأهميتها، ولا المفترض فيهم الالتزام بها يحترمونها فهى لا تعنى لهم شيئاً، لأن عنصر البركة وقيمة القضاء والقدر صارا أكبر وأضخم.
القوانين لا تطبق بالمناشدة، وما دام مطبقوها لا يؤمنون بها وبمعناها، والمطبقة عليهم يعتبرونها ظلماً لهم وعدواناً على حرياتهم، فقولوا علينا السلام.. سلام!
نقلا عن الوطن القاهرية