بقلم - أمينة خيري
لا يسعنى سوى العودة ليومى، الذى أمضيته فى أحضان مصالح حكومية فى حى إمبابة الحبيب. كتبت، قبل أيام، عن ساعات النهار التى أمضيتها متنقلة بين عدد من المصالح والمكاتب الحكومية، والملف بـ«كبسونة»، الذى طلبته إحدى حفيدات «مدام عفاف» بإصرار، بعدما أرسلتنى جيئة وذهابًا، مرة لتصوير شهادة ميلاد أخبرتنى وأنا أسلمها لها بأنها لا تحتاجها، وأخرى لشراء ملف لم تحدد موضوع كبسونته إلا بعد عودتى مُحمَّلة بشتى أنواع الملفات ماعدا «الملف أبوكبسونة». اليوم، أتحدث عن «ميعاد الساعة 11»، الذى فتح أمامى أبواب الفهم، ومهّد سبل التفسير والتوضيح.
الموعد «المميكن» الذى حصلت عليه كان ينص على التواجد فى المصلحة فى تمام الـ11 صباحًا. بسذاجتى وسطحيتى، كنت فى المصلحة فى تمام العاشرة و20 دقيقة. وحين أخبرت «مدام عفاف» أن موعدى فى تمام الـ11، ابتسمت ابتسامة عجيبة غريبة، رغم التكشيرة الرهيبة المحفورة على كل تقسيمة من تقاسيم وجهها. أسوأ ما فى الابتسامة هى ذلك الشعور الذى تسببه من عدم الراحة المخلوط بالشعور بالذنب لدى المواطن لسبب غير معروف. كنت قد أنجزت مشاوير التصوير والملف بكبسونة وبدون فى الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق، وهو ما تسبب فى إصابتى بحالة من الذعر. ماذا لو كان نظام المصلحة يعاقب المتأخر بإلغاء دوره؟، ماذا لو طلبوا منى الانتظار لنهاية اليوم، بعد انتهاء أدوار مئات المواطنين المنتظرين؟.
بلعت غضبى من حكاية الملف بكبسونة، واقتربت مجددًا من «مدام عفاف»، وسألتها: هل دورى محفوظ أم لا؟!. هذه المرة، فوجئت بابتسامة حانية من هذا الوجه العبوس الكشور، وقالت لى بعطف بالغ: «طب استريحى فى أى حتة لغاية ما أنده عليكم». أحد المواطنين الشرفاء الواقف إلى جوار مكتب «مدام عفاف»، ويبدو أنه كان قد ضاق ذرعًا بسذاجتى وعصبيتى، قال لى بهدوء لم أشهده فى حياتى: «يا أستاذة، باقولك إيه: كووووول الناس دى، معادها الساعة 11، فما تقلقيش خالص». لسبب ما، تسرب لى هدوؤه وطمأنينته وسكينته، وكأن طاقة نور جديدة قد انفتحت أمامى. فسألته: «طيب حضرتك من خبرتك، قدامنا تقريبًا قد إيه وقت؟، يعنى ساعة؟، ساعتين؟، خمسة؟»، تسللت أمارات اللوم إلى وجهه، وقال لى وكأننى ابنته الطائشة المتهورة، رغم أننى أكبره بعقدين على الأقل: «لا لا لا. دى تساهيل بتاعة ربنا، لا نسأل فيها. استهدى بالله كده، وارتاحى فى أى مكان، وربنا يفرجها من عنده إن شاء الله». كلامه أتى بمفعول مخدر، وألقى ضوءًا فيما بعد على قدرة الكلمات الغارقة فى الروحانيات على تخدير الناس وتسكين قلقهم. أعترف بأن كلمات الرجل الحكيم ساعدتنى على إكمال اليوم دون معارك فكرية تُذكر، لكن فى الوقت نفسه، لا يسعنى سوى التفكير فى مسائل عدة، مثل قيمة الوقت، وفائدة الميكنة والأتمتة، ومصادر الصبر والجلَد، ومناهل الحكمة والرصانة والحصافة.