بقلم : أمينة خيري
حاول ألسينو كوستا (38 عاماً) أن يجد مكاناً لدراجته الهوائية فى داخل القطار فى محطة ستراتفورد فى شرق لندن. ولأنه كان وقت الذروة حيث عودة الموظفين والموظفات من أعمالهم (والنسبة الأكبر هنا لا تستخدم سياراتها الخاصة للتنقلات)، فقد فشل فى إيجاد مساحة مناسبة له ولدراجته، وحيث إن «قواعد اصطحاب الدراجات الهوائية» على متن القطارات ومترو الأنفاق معروفة ومتاحة للاطلاع لمن يرغب ومفصلة بشكل لا يدع مجالاً للالتباس، فإن محاولات كوستا لم تجد من يقدم له يد العون من الركاب أو العاملين فى المحطة فى وقت الذروة.
تقول القواعد إن الدراجات القابلة للطى يمكن اصطحابها على متن أى قطار فى مترو الأنفاق دون تذكرة وفى كل الأوقات، أما الدراجات غير القابلة للطى، فلا يمكن اصطحابها إلا خارج أوقات الذروة المحددة بالتالى: من السابعة والنصف إلى التاسعة والنصف صباحاً، ومن الرابعة إلى السابعة مساءً، كما أنه يحظر اصطحاب الدراجة فى القطار فى غير أوقات الذروة فى حال كان الازدحام شديداً، ليس هذا فقط، بل هناك عدد محدود من المحطات يحظر النزول فيها من القطار بالدراجة غير القابلة للطى (مثل محطة بانك) وذلك لأسباب تتعلق بسلامة الركاب.
ورغم هذا، استقتل واستموت كوستا، ولما قوبلت محاولاته بالرفض التام من قبل العاملين فى المحطة، لم يكن منه إلا أن ألقى بالدراجة أمام القطار الذى كان مقبلاً بسرعة، ما أدى إلى تدمير الدراجة وتوقف القطار لبضع دقائق، لم يهدد العاملين بعبارات تهديدية على شاكلة «ما تعرفش أنا مين؟!» أو «هتندم على عملتك»، ورغم أن العاملين لم يبادروا إلى الشتم والسب وخلع الأحزمة والاستعانة بما تيسر من زجاجات فارغة ومقاعد خالية للانتقام من كوستا ومعاقبته على فعلته، لكن ما جرى هو أن الشرطة كانت على رصيف المحطة فى أقل من دقيقتين.
لم يتدخل الركاب للوساطة، حيث «حرام عليكم، اتقوا الله، ده راجل غلبان»، أو حتى «معلش يا باشا ماجراش حاجة ده قطار حكومة يعنى الحكومة تصلحه، وحصل خير»، كما لم يبادر المواطن الكيوت اللذوذ المتيم بعصر تقنية المعلومات وصحافة المواطن برسم ابتسامة باهتة على وجهه والاندساس فى محيط الحدث لتصوير ما يحدث بهاتفه المحمول، بل انصرف كل حى يرزق إلى حاله.
كذلك لم يصل رجال ونساء الشرطة إلى مكان الحدث بخطوات بطيئة أو بلغة جسد تقول للجميع «وسع وسع للباشا»، بل جاءوا بخطوات سريعة واثقة مستعدة للتعامل مع الحدث حسبما يتطلب الموقف، أحاطوا بكوستا ووجهوا له عدداً من الأسئلة بهدوء شديد وحسم بالغ، لم يصفعه أحد على وجهه ليعترف، أو يركله أحدهم فى بطنه، كما لم يبادر أحدهم إلى الإمساك به من قفاه أو توجيه عبارات السباب له، كل هذا ومئات الركاب ملتزمون أماكنهم بعيداً عن الحدث لعدم تعطيل الإجراءات، وانتظاراً لرفع أنقاض الدراجة لوصول القطار التالى، لم تتصاعد عبارات الحسبنة على الشرطة «الطاغية» التى تستوجب «الراجل الغلبان» أو الحوقلة للتعبير عن فداحة ما جرى فى محيط المحطة، وحتى وإن حوقل أحدهم أو حسبن احتفظ بهما لنفسه.
وبمتابعة الحدث بعد أيام قليلة، اتضح أن السيد ألسينو كوستا خضع للمحاكمة، وهناك اعترف بقيامه بتعطيل القطار (نعم! التهمة تعطيل قطار)، وإلحاق الضرر بالمال العام، وحكمت محكمة «بلافرايرز» على السيد كوستا بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ، لكنه بدأ تنفيذ 70 ساعة من العمل غير المدفوع فى مجال خدمة المجتمع، وبالمناسبة فإن مجال خدمة المجتمع تتراوح بين العمل فى محلات بيع الملابس والمقتنيات المستخدمة التى تباع لأغراض خيرية، المشاركة فى أعمال الطهى فى دار مسنين، أو العمل فى مصنع فى قطاع لا يحتاج خبرة عملية، وغيرها وذلك تحت إشراف من قبل أحد العاملين المحنكين فى المكان.
وللعلم فإن فكرة «خدمة المجتمع» مخططة بشكل محكم، حيث الشخص ملتزم بعدد معين من الساعات وعليه أن يصل المكان فى الوقت المحدد ولا يبرحه إلا بعد انتهاء الساعات المقررة، وفى أثناء هذه الساعات، لا يجلس يشرب الشاى أو يلعب طاولة، لكنه يقوم بعمل يكون فى الأغلب ذا طبيعة خدمية وله طابع إنسانى، وجزء من الفكرة يقوم على تدريب الشخص على فكرة الالتزام بالأوامر وكأنه يتم تأهيله ليكون مواطناً ملتزماً بالقوانين التى تنظم الحياة فى المجتمع، وتقوم الجهات الرسمية بالاتصال بالمشرف بين الحين والآخر للتأكد من التزام الشخص، كما يتم إعداد تقرير شامل بعد انتهاء ساعات العمل التى حكمت بها المحكمة، وفى حال أظهر الشخص المحكوم عليه تمرداً أو رفضاً أو تقصيراً، يتم التدرج فى زيادة صعوبة ساعات الخدمة، حيث يتم إرساله إلى مكان ذى طبيعة أقسى وربما يصل به الأمر إلى الحبس.
وهذا للعلم والإحاطة والله من وراء القصد!