بقلم : أمينة خيري
خناقة غاز المتوسط لو تدرون رهيبة بالغة التعقيد. ظاهرها سياسة وباطنها اقتصاد، ومن ثم هيمنة، وبالتالى سيطرة، وفى نهاية المطاف سطوة للمنتصر القوى. تعود معرفتى بحقول الغاز في شرق المتوسط إلى أواخر التسعينيات، حين أرسل لى صديق صحفى لبنانى مقالاً متخصصاً مطولاً عن الطاقة، وموضوعه تلك الثروات الكامنة في مياه شرق المتوسط، والتى يمكن أن تفتح أبواب جهنم للصراع والحروب والاقتتالات الإقليمية بحكم الملكية، والدولية بحكم المصلحة والانتفاع، أو تمهد الطريق نجو جنة الرفاه لدول إقليم شرق المتوسط في حال تم التعامل مع القضية تعاملاً عقلانياً منطقياً مخططًا ومستدامًا.
بدا لى الموضوع حينئذ مسألة إما خرافية أو حقيقية، لكنها لا تعنينا. واليوم نجد أنفسنا غارقين حتى الشوشة في إقليم اختصه الله سبحانه وتعالى بنقيضين: موارد طبيعية لا أول لها أو آخر، وعقول مدبرة ما أنزل الله بها من سلطان، ومعها تدبيرات خارجية مؤثرة لا ترى سوى مصالحها وسبل تفعيلها. والغريب أن مصر حين تقرر أن تفعّل مصالحها وتنتبه إلى مواردها ومستقبلها، ينقلب البعض في الداخل على قرارها الجيد، ويمضى قدماً في هبده العنكبوتى ورزعه التنظيرى الذي لا يليق إلا بسوق التلاث أو الجمعة على أحسن تقدير. ملف الغاز لمن يهتم بمعرفة الثقل والمعنى والتشابك لدرجة التعقيد عليه أن يبحث في الوثائق وليس إعادة تدوير تغريدات هنا وتدوينات هناك.
الكم المذهل من الدراسات والأبحاث والأوراق المعمقة والجامعة بين السياسة والاقتصاد والطاقة والاستراتيجيا التي أجريت على ملف غاز شرق المتوسط على مدار العقدين الأخيرين يخبرنا بمدى أهميته وتشابكه. فشرق المتوسط يحوى «نقاوة» الدول الأكثر اشتعالاً أو قابلية للاشتعال السريع والمريع لأسباب سياسية وطائفية واقتصادية، ناهيك عن كون البعض منها الملعب الخلفى لسياسات وتناحرات ومصالح دول أخرى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أمريكا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. فمن المرض المزمن للقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلى والفُرقة الداخلية بين الفلسطينيين، إلى وضع سوريا الذي تحول من الصعب إلى المنفجر، إلى الجنون التركى الشاطح غربًا والناطح جنوباً والطامح شمالاً، إلى لبنان المهدد بالانفجار دائماً وأبداً، ناهيك عن الأزمة القائمة بين تركيا وقبرص والوضع الغريب لـ«جمهورية شمال قبرص التركية» المعلنة من طرف واحد، والتى لا تعترف بها سوى تركيا، جاء كنز غاز المتوسط ليكشف الوجوه ويعيد الحسابات. ولعل الميزة الكبرى للوضع الحالى، بعد اكتشاف الغاز نفسه، هو أن جميع الأطراف- سواء تلك المالكة للغاز بحكم الموقع الجغرافى، أو المتعاملة في ملفه بحكم التعاقدات المبرمة، أو المصوبة عيونها عليه بغية الاستخدام والانتفاع- لم تعد تجد حاجة لادعاء الفضيلة أو التدخل باسم «دعم الديمقراطية» هنا أو «حماية المعارضة» هناك أو أي من هذه العبارات العظيمة. الجميع ضالع بحثاً عن مصالحه ولو على أجساد الآخرين.