بقلم : أمينة خيري
قادنى «الحظ» إلى التردد على عدد من المكاتب الحكومية لإنهاء بعض الأوراق، قبل أيام. وكان «الحظ» قد حال بينى وبين مثل هذه المهام منذ ما يزيد على العامين. وبينما أخطو خطواتى الأولى إلى داخل العمارة المخصصة شققها لهذه المصلحة الحيوية، شممت رائحة أعرفها جيدًا. ظننت فى البداية أنها رائحة أوراق الأرشيف، أو ربما تكون حبر الأختام، لكن بعد الدرجات الأولى التى صعدتها تأكدت أن الرائحة هى زيت القلية وشطة التقلية. كذّبت نفسى، وأقنعتها بأن هذا ربما ناجم عن ساعة الصباح، التى تعنى بالضرورة إفطارًا والذى منه، وأن معدتى الخاوية ربما تنبهنى إلى ضرورة التفويل. دخلت أول مكتب، حيث بداية الدورة الحياتية لشرح الحالة ومعرفة الخطوات المنصوص عليها لإنجاز المهمة. رغم مساحة الغرفة الضيقة جدًا، فإنها بسم الله ما شاء الله مُكدّسة بمكاتب متهالكة متلاصقة على هيئة حرف U، ووراء المكاتب أربعة موظفين وشاشة كمبيوتر. «صباح الخير» قوبلت بصمت تام. «سلامو عليكو» كان نصيبها أفضل قليلًا. نظرات قصيرة حادة من الموظفين الأربعة، بعضها ازدراء والبعض الآخر قرف مشوب بالاستنكار ولا تخلو من استنفار. ولما لم تلقَ «سلامو عليكو» هى الأخرى لديهم ما يدعو إلى الرد، فقد بدأت أشرح سبب قدومى و.. وقبل أن أكمل، رمقنى أحدهم بنظرة بألف كلمة وعبارة: «إنتى البعيدة مش شايفة إنك جاية فى وقت مش مناسب؟!». دفعتنى النظرة إلى عمل مسح شامل للمكاتب، لأجد أطباق «ستانليس ستيل» مرصوصة هى الأخرى على هيئة حرف U، طعمية مقلية، فول بالتقلية، حلقات بصل، باذنجان مخلل، خبز بلدى، ويبدو أننى أطلت النظر وأضعت وقت المصلحة لدرجة أن أحدهم اضطر إلى أن يخبرنى بعبارة توبيخية: «يعنى لو ممكن لو مايضايقكيش تنتظرى برة شوية لغاية ما نفطر، ولا مانفطرش يعنى؟!».
هذه كانت البداية المستمرة حتى يومنا هذا فى مشاوير ذهاب وإياب، وانتظار نتيجة الاستعلام فى أمور ميتة إكلينيكيًا، «لكن القانون بيقول كده»، وبحث وتنقيب فى دفاتر الأرشيف، وما أدراكم ما الأرشيف، إلى آخر المنظومة التى يعلمها الجميع حتمًا. أعلم تمامًا أن ملايين المواطنين يضطرهم الحظ السيئ العاثر إلى ارتياد مكاتب ومصالح حكومية بصفة يومية. وأعلم تمامًا أن ما أعايشه هذه الأيام من «رزالة» موظف هنا أو رفض آخر إنجاز ما يتوجب عليه إنجازه لمجرد ان «مالوش مزاج» أو لأن «مرتبه ملاليم» أو لأن الموروث البيروقراطى المصرى يحُول دون الإنجاز بسلاسة ويسر، أو تعنت ثالث يلعب دور «أمير الانتقام»، فـ«يفش غل متراكم» بسبب الدروس الخصوصية، «فيزيتا» الدكتور، والممرضة التى لا تنجز عملها إلا بالبقشيش، واشتعال فواتير الكهرباء والماء والغاز و«المحمول» والجبنة الرومى واللحمة والفراخ.. إلخ. أعلم أن ما أكتبه قُتِل بحثًا، ثم مات البحث بعد صراع مرير مع الواقع. لكن «آدينا بنطق حنك»!