بقلم - أمينة خيري
وما مترو الأنفاق إلا مسرح واقعى كبير. كل همسة وتفصيلة فى هذه العربات تنضح بما يمكن أن يملأ كتباً عن حياة المدينة المصرية فى القرن الحادى والعشرين. ظللت سنوات طويلة أعتبر نفسى «عاشقة المترو الأولى فى مصر». مهما كان مزدحماً أو يفتقد التهوية الصحية كان الوسيلة الأسرع والأنظف وبالطبع الأرخص للانتقال من شرق العاصمة إلى جنوبها أو وسطها. وحتى سنوات قليلة مضت، كانت قواعد الضبط وأصول الربط واضحة وضوح الشمس فى تفاصيل المترو.
تفاصيل المترو التى تغيرت وتبدلت مع تغير ما جرى لمصر وبها وفيها على مدار السنوات السبع الماضية تتحدث أيضاً عن نفسها فى داخل هذا الصرح العملاق. وعلى الرغم من جهود شعبية مستمرة لتحويل محيط محطات بعينها إلى أسواق شعبية، حيث بيع خضراوات وفواكه، وملابس وأدوات منزلية وغيرها من البضائع الرائجة فى فترة الظهيرة التى تتواكب ونزوح ملايين الموظفين الحكوميين من مكاتبهم بعد سويعات من «العمل»، إلا أن الجهات المختصة كانت تحول دون ذلك، فتتركهم تارة وتطاردهم تارة، لكنهم ظلوا يجلسون على كف عفريت خوفاً من مداهمة هنا أو «كبسة» هناك.
اليوم لا مداهمة ولا كبسة ولا يحزنون. ليس هذا فقط، بل إن السوق توسع وتمدد وتوغل، انتقلت معالمه وعوالمه إلى قلب عربات المترو. عربة السيدات فى الخط الأول فى مترو الأنفاق باتت أقرب ما يكون إلى سوق الثلاثاء لكن طيلة أيام الأسبوع.
تصعد سيدة تبيع الـ«سويت السورى» والإكسسوار الصينى والشاى الكينى، ليترجل زميل فاضل كان يعرض ما لديه من معصم المحجبة وشراب المحجبة وإيشارب المحجبة. وبينما هى تصعد وهو يترجل يتسلل إلى العربة ثلاثة من الصبية يحمل كل منهم بضاعة ما: حلوى مجهولة المصدر، كتب مطموسة المحتوى، أدوات مكياج دون جهة تصنيع. وبينما هم يصرخون فى عربة السيدات فى محاولات زاعقة لبيع ما يحملون، تصعد إحدى الشحاذات المحترفات الكثيرات بجسدها العفى الفارع، لتستحث الجميع على أن يصلين على من سيشفع فيهن يوم القيامة.
ولأن فتاتين واقفتين إلى جوارها لا تتمتمان كما تفعل الأخريات، فإنها تخبرهما بصوت أجش «عنكم ما صليتوا». وفجأة يتحول الصوت الأجش والقامة الفارعة العفية إلى حطام امرأة. نهنهة وشحتفة وكلمات متحشرجة: «عيانة يا ولادى. جوزى مشلول، وولادى الأربعة معوقين. شايلة الطحال وكلوة ومحتاجة علاج للكبد. آه والله يا ولادى».
«ولادها» فى هذه اللحظة يهرعن إلى البحث عن جنيهات غارقة فى قاع حقائبهن ويسارعن إلى مساعدتها. يحين موعد الوصول إلى المحطة المقبلة، فتسترد عافيتها فجأة، وتترجل انتظاراً لضحايا جدد.
الحق يقال تم تكثيف الوجود الأمنى فى داخل المحطات، لكن آه وألف آه من العنصر البشرى الذى ضرب بعضه التجريف فى مقتل. فعلى الرغم من تجمهر ما لا يقل عن أربعة أفراد بين أمناء شرطة وأفراد أمن حول كل جهاز كشف عن المتفجرات، فإن تمرير الحقائب عليه متروك لرغبات الجمهور، بمعنى أن من يريد أن يعرف إن كانت حقيبته تحتوى متفجرات يمكنه وضعها على الجهاز، أما من لا تتوافر لديه الرغبة، فعليه المرور بحقيبته دون أن يضايقه أحد أو يجبره على فعل ما لا يود أن يفعل.
الأفعال فى المترو كثيرة وردود الفعل أيضاً كثيرة. فحين يعترض مواطن سخيف مثلى على مبدأ الاختيار فى التفتيش، يجد أمين الشرطة مخبراً إياه بأنه «مش مشكلة»، وإن تمادى المواطن فى سخافته ورذالته متسائلاً عن الوضع فى حال انفجرت قنبلة فى الداخل، فمن حق الأمين أن يفحمه ويرد عليه الرد المعلمى العلمى الأكيد: «ربنا هيستر إن شاء الله».
وبينما يستر الله ولا نستر نحن وكأننا نرفض أن نتعلم أو نتطور أو نتقدم، تمضى عربات مترو الأنفاق لتؤكد لنا مما لا يدع مجالاً للشك أن ما عربة المترو ومحطاته وموظفوه وركابه إلا مسرح كبير!
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع